مسألة (21) : تثبت عدالة مرجع التقليد بأمور :
الاول : العلم الحاصل بالاختبار أو بغيره ، ويراد بالعلم ما يعم الإطمئنان بل والوثوق أيضاً .
الثاني : شهادة عدلين بها .
الثالث : شهادة العدل الواحد أو الثقة مع حصول الوثوق الشخصي بقوله أيضا.
الرابع : حسن الظاهر ، والمراد به حسن المعاشرة والسلوك الديني بحيث لو سئل غيره عن حاله لقال لم نر منه إلا خيرا .
الشـرح
هذه المسألة من أهم المسائل التي تقع على عاتق المكلف والتي يتحمل فيها الجزء الأكبر من المسؤولية ، ونتعرض لهذه المباحث بشكل يتناسب مع حجم المسألة ، فنقول:
إن العدالة من أهم شروط مرجع التقليد وقد عرّفناها سابقاً وقلنا بأنها : ملكة مستقرة في وعاء النفس باعثة على إتيان الواجبات وترك المحرمات والإستواء على جادة الشرع الأقدس ، ولابد من معرفتها في مرجع التقليد.
وقد ذكر سيدنا الشهيد السعيد (رضوان الله عليه) تبعاً للفقهاء أموراً لكيفية التعرف على عدالة مرجع التقليد ، وهي :
أولاً : العلم الشخصي بحال المرجع ، والمراد به هو الإحاطة التفصيلية التامة وهذه الإحاطة على أقسام ثلاثة :
1- إحاطة قطعية : وهي الناتجة عن الوجدان الحسي بسبب معاشرته له ومخالطته إياه ومعرفة دقائق أموره ، وهذه من أرقى الكواشف وأرقى أنواع العلم لأنها بنفسها فيها إراءة كاملة عن واقعه.
2- إحاطة إطمئنانية : وهي الناتجة من الظن الإطمئناني المتاخم للعلم ، الذي يحصل عن طريق المناشئ العقلائي ، بحيث أن العقلاء في مقام تبانيهم جعلوا هذه الأمور علامة كاشفة عن معرفة الشيء ، كأنتشار وشيوع عدالته عند القاصي والداني من المحيطين به من شتى الأصناف، وأما لو كان ناتجاً من مناشئ غير عقلائية فلا عبرة به كالناشئ من حسن هيئته أو طول لحيته او جمالية طلعته ، وللأسف الشديد هذا الأمر هو المسيطر على اذهنة كثير من العوام فهم بمجرد أن يرون شخصاً ملائماً لطبيعة نفوسهم يركنون اليه ويعتمدون علية في أحكامهم ، متناسين أن هذا لا يعبأ به العقلاء في طريقة تعاملهم.
3- إحاطة وثوقية : وهي الناتجة من الثقة القوية بأعمال هذا المرجع من أنه لا يكذب عليه في أفعاله وهذا ينتج من التخمين والحدس ، فهو يثق بانها نابعة من طبيعته وليست متصنعة ، أو كأن يوصي المجتهد الذي قبله به وهو يثق بالمجتهد الأول ، أو يرى بعض العلماء المعاشرين له يحترمونه ويستنيرون برأيه.
وهذا كله من معاني العلم إما أن يحصل عن طريق الإختبار ، بأن يختبر تصرفاته بنفسه وهذا يحتاج الى معرفة كاملة بالتصرفات وتمييز الصالحة عن غيرها وأن يستطيع الوصول اليه، وإما أن يحصل بالطرق العقلائية الأخرى .
ثانياً : شهادة عدلين بعدالته ، وهذا واضح من باب البيّنة من فضاكن يُشترط أن يكونا من أهل الخبرة.
ثالثاً : شهادة العدل الواحد ويجب أن يكون من أهل الخبرة، وهذا بناءً على أن خبر الثقة الواحد معتبر حتى في الموضوعات وهو الصحيح كما هو عند أكثر المعاصرين ، أو حتى شهادة الثقة الذي يُطمأن لقوله الشخصي وإن لم يكن من أهل الخبرة بمعنى أنه صادق في قوله فلو أخبرك هذا الثقة بأنه فتّش عن عدالته فأحرزها جاز الإعتماد عليه ، من فضاكن بشرط أن يكون متورعاً لا يسأل إلاً أهل الخبرة فيثق به من هذه الناحية أي من ناحية أنه لا يقلّد أحداً إلاّ ويكون قد علم بعدالته .
رابعاً : حسن الظاهر : وهذه أهم نقطة لأن الإبتلاء فيها أكثر والإعتماد عليها هو الشائع ، وليتضح حال حسن الظاهر لابد من أن نورد هنا صحيحة ابن أبي يعفور قال : قلت لابي عبد الله (عليه السلام) : (بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ قال : فقال: أن تعرفوه بالستر والعفاف والكف عن البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك، والدال على ذلك كله والساتر لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وغيبته، ويجب عليهم توليه وإظهار عدالته في الناس، المتعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحافظ مواقيتهن بإحضار جماعة المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم ومصلاهم إلا من علة، وذلك أن الصلوة ستر وكفارة للذنوب، ولولا ذلك لم يكن لاحد أن يشهد على أحد بالصلاح، لان من لم يصل فلا صلاح له بين المسلمين، لان الحكم جرى فيه من الله ومن رسوله صلى الله عليه وآله بالحرق في جوف بيته، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين إلا من علة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا غيبة إلا لمن صلى في جوف بيته ورغب عن جماعتنا ومن رغب عن جماعة المسلمين وجبت غيبته وسقطت بينهم عدالته ووجب هجرانه، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره فإن حضر جماعة المسلمين وإلا أحرق عليه بيته، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته وثبتت عدالته بينهم).
وهذه الرواية ناظرة الى جملة من العلامات والكواشف عن العدالة والمعرّفات لها :
اولاً : العفاف والستر : وهذه العلامة لا تصدق إلاّ عند الجزم والقطع بعفاف الرجل وستره ، لأن العرف المحاوري العام يقولون (عرفته بالعفاف) إذا كانوا جازمين وقاطعين بتلك المعرفة ، وهذا قطع بوجود ملكة العدالة ، لأن معنى العفيف هو التارك للحرام عن قوة مستحكمة في وعاء النفس بهذه القوة إكتسب سلوكاً مستوياً في جادة الشريعة ، وليس العفاف هو ترك الحرام كيف ما كان ، والعرف لا يسمي تارك الحرام كيف ما كان بالعفيف ، وهذا القطع بالعفاف والستر لا يكون إلاّ عن مناشئ عقلائية وهي خصوص المعاشرة الطويلة والصحبة والمخالطة الشديدة، فاذن هذه العلامة أعني كاشفية العفاف عن العدالة هي علامة تكوينية فهي بنفسها إن وجدت تكشف العدالة وإن لم بتدخل الشارع الأقدس ، وليست جعلية من قبل الشارع الأقدس أو تعبدية لأنها كاشفية عقلائية إطمئنانية.
ثانياً : إجتناب الكبائر التي أوعد الله علها النار: وإكتشاف هذه العلامة ليس بالأمر الهيّن لأن إحراز إجتناب مثل هذه الكبائر يحتاج الى معاشرة ومخالطة شديدة ، لأن العرف المحاوري يطلقون عنوان (المجتنب عن المنكرات والكبائر) على الشخص في حالة وشوكه في الوقوع في الكبيرة ولم يفعلها وإستكشاف ذلك بعيد المنال ، ومنشأ هذا الإجتناب والرادعية عن المنكرات هو وجود قوة إيمانية مستحكمة في وعاء نفس ذلك الشخص توجب ردعه عن انتهاك حرمات الله وهي ملازمة لملكة العدالة ولا يكون ذلك الإجتناب عن جزاف، فاذن الإجتناب عن مثل هذه الكبائر يكاد يكون متلازماً مع القطع أو الإطمئنان بتحقق ملكة العدالة عند ذلك المجتنب ، وكذلك هذه العلامة أعني كاشفية هذا الإجتناب عن الكبائر هي علامة تكوينية بببركة التباني العقلائي وليست جعلية من قبل الشارع الأقدس ، ففي الحقيقة يكون الكشف أولا وبالذات للإطمئنان العقلائي ثم ثانياً وبالعرض لهذا الإجتناب الموُرث لذلك الإطمئنان.
ثالثاً : ستر جميع العيوب الأخلاقية والشرعية: عن جميع المسلمين في مجالسهم ومحاضرهم ، وهذه العلامة هي علامة جعلية من قبل الشارع وتعبدية منه لغرض الإرفاق والتسهيل ، لأنه يسهل على الشخص أن يستر جميع عيوبه عن المسلمين ويسهل على المسلمين إكتشاف ذلك.
وهذه العلامة صريحة في إعتبار علامة أخرى وهي أن يكون فاعلاً لتمام الواجبات لأن التارك لبعضها لا يعنون بأنه ساتر لعيوبه جميعها ، وصريحة في أنه تاركاً لجميع المحرمات ، لأن فاعل المعصية ومهما كان حجمها لا يعنون بأنه ساتر لجميع عيوبه، فلو نظر الى الأجنبية في محفل المسلمين ومحضرهم أو نهر يتيماً أو لم يستمع الى سؤال مؤمن أو جلس في مجلس الغيبة ، فانه لا يُعدّ ساتراً لجميع عيوبه فلا يرد الإشكال من أن هذه الرواية لم تذكر فعل تمام الواجبات وترك تمام المحرمات.
رابعاً : المواظبة على الصلوات الخمس : لأن هذه الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي معراج المؤمن ونور في طريقه وسمو نفسه، فالذي يواظب عليها يكشف ذلك شرعاً أي في العرف المتشرعي على أنه منتهي عن الفحشاء والمنكر وأنه عارج الى الله تبارك وتعالى وأن نفسه سامية فلا يُقدم على مخالفة المولى ، وهذه الأمور ملازمة للعدالة ، وأما غير المواظب فلا يحكم عليه بالعدالة لأنه لا يُحرز منه الإمتثال لتعاليم المولى وليس هناك من رادع يردعه عن إرتكاب الفسقيات ، وهذه العلامة واضحة أنها جعلية شارعية تعبدية ، إذ ليس للعقلاء مدخل في معرفتها حتى تُكتشف الملازمة.
وكل هذه الأمور هي المقصود منها حسن الظاهر، الذي يُستكشف بطرق الإستكشاف العقلائية الإطمئنانية المعروفة ، من البيّنة الخبيرة العادلة أو خبر الثقة الخبير أو العلم الحسي الوجداني أو الشياع المفيد للإطمئنان الذي منشأه التباني العقلائي.
بقي الكلام في مرتكب الصغائر
فانه قد يقال : أن هذه الرواية قالت: (ويُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار) ولم يذكر الإجتناب عن الصغائر ، فلو كان الإجتناب عن الصغائر معتبراً لذكره وما دام أنه لم يذكره فهو لا يريده.
ولكننا نقول : إن الإمام (عليه السلام) كان في مقام بيان الكواشف والعلامات الدالة على العدالة فقط ومن الواضح جداً أن إجتنناب الكبائر أمر واضح وبيّن فهو علامة واضحة بينما إجتناب الصغائر ليست واضحة بسهولة بل تحتاج الى إطّلاع تام ومخالطة قوية وهذا غير متيسر إلاّ للبعض كأن يكون إبنه أو أحد أفراد متعلقيه، من فضاكن الناس لو إطّلعوا عليه وهو لا يجتنب عن الصغائر فهذا يُعنون في عرفهم أنه غير مستوي على جادة الشريعة فهو ليس عادلاً لأن المرتكب للصغائر لم تغلب عليه قوة الإيمان التي تجنّبه الوقوع في محاذير المولى ، ومن ذلك نستنتج أنه يمكن أن يرتكب الكبيرة متى ما تيسرت له لفقد تلك الرادعية في وعاء نفسه، فاذن مع إرتكاب الصغيرة لا يبقى عندنا إحراز من أنه لا يرتكب الكبائر ، ولا ملازمة بين عدم إعتبار شيء في الكاشف واعتباره في المنكشف والكاشف عن العدالة هو إجتناب الكبائر فاذا ارتكب الصغيرة فهذا سيؤدي بطبيعة الحال الى ارتكاب الكبيرة ، فاذا انهدم الكاشف وانثلم بسبب إقتراف هذه الصغيرة انهدم المنكشف أكيداً ، فاذن لم يكن الإمام (عليه السلام) في مقام بيان مفهوم العدالة بكامله وبشموله وسعته حتى يذكر إجتناب الصغائر بل كان في مقام التعريف بكواشف العدالة عند الناس بالإطلاع على أحوال ذلك الشخص المتيسرة .
فان قلت : من أن الصغائر ورد العفو عنها من الله تبارك وتعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) ، ومع الوعد بالعفو عنها وترك الكبائر فلا عقاب ولا مؤاخذة، وعليه لا يكون مرتكبه الصغيرة فاسقاً وغير عادل لأنها لا تنافي العدالة ولا موجبة للفسق ، وذلك لأن التائب عن الذنب كلا ذنب له ، فالتوبة رافعة للعقوبة ، فكيف تجتمع مع الفسق؟
من فضاكننا نقول : إن هذا الكلام هو خلط بين مقام فعلية العقاب أي مقام توجه العقاب نحو هذا الشخص بعد أن إستحقه بذلك الفعل ، وبين مقام إستحقاق العقاب أي مقام ما قبل توجه العقاب اليه ، لأن العقاب له مقامان:
مقام الإستحقاق: والحاكم بهذا هو العقل ، فان العقل يحكم على العبد العاصي بأنه يستحق العقاب لمخالفته للمولى الواجب الطاعة وهذا الإستحقاق ليس مجعولاً شرعياً أي أن الشارع لا يتدخل فيه إطلاقاً لا نفياً ولا إثباتاً لأنه من المجعولات العقلائية الخاضعة لقياسات العقل ، فان العقلاء قد أطبقوا على أن كل من خالف المولى وهتك حرمته فهو يستحق العقاب بلا أدنى ارتياب لأنه في تلك المخالفة خروج عن زي الرقية ورسوم العبودية ، وهذا يُستكشف منه أن مرتكب الصغيرة غير مستوٍ على جادة الشريعة فهو منحرف عنها خارج عن رسوم العبودية ، لأنه لو كان مستوياً غير منحرف عن جادة الشريعة لما فعل المعصية فهو محكوم عند العقلاء بأنه فاسق مستحق للعقاب ، فكيف من كان متصفاً بالفسق في العرف العقلائي العام أن يسميه المتشرعة أنه عادل، من فضاكن توجُّه العقاب اليه وفعليته عليه هي بيد الشارع الأعلى أعني به الله سبحانه وتعالى فان شاء الله عاقبه وإن شاء تركه، فلا معاقبة إلاّ بعد إستحقاق لها .
ومقام الفعلية : والحاكم به هو الشارع الأقدس فان الله تبارك وتعالى إذا رأى العبد قد إستحق العقاب بحكم العقل فانه ينظر الى الموجب في قاموسه الذي بواسطته يكون هذا الإستحقاق فعلياً ، فقد يكون هناك ما يوجب سقوط العقاب عنه رحمة من المولى وقد لا يكون هناك ما يوجب سقوطه ، ومن هذه المسقطات لفعلية العقاب هي التوبة بل هي خير المسقطات ، فان التوبة موجبة لدفع العقاب عن هذا العبد إلاّ أنه مستحق له كما أوضحناه ، وكذلك من ارتكب الكبيرة فهو مستحق للعقاب من فضاكن معاقبته بيد المولى إن شاء عاقبه بما اقترفت يداه من الذنب وإن شاء تركه بما وقع منه مما كان فيه نوع من الدفع لتلك العقوبة كالصدقة أو الشفاعة ، ففعلية العقاب من المجعولات الشارعية فيمكن للشارع الأعلى أن يتدخل بها فاما أن يُثبتها على هذا العبد أو أن ينفيها عنه.
فان قلت : إن مرتكب الصغيرة لا يمكننا أن نصفه بأنه فاسق خارج عن جادة الشريعة لأنه مسلم وهو ملتفت الى ذلك الوعد الإلهي بالغفران عن مثل هذه الذنوب ، فعندما أقدم على ارتكاب هذه الصغيرة قد جعل في باله المغفرة من الله تعالى له ، فكأنما جعل المغفرة مسلّمة ومفروغاً عنها ، ومع حصول المغفرة فلا ذنب ولا فسق.
فاننا نقول : إن ذلك الغفران والتكفير عن السيئات ليس مطلقاً وكيف ما كان بل هو معلق على أمرين : إجتاب الكبائر وعلى الإستغفار ، فمن أين يُحرز أنه يجتنب عن الكبائر طيلة حياته ، ومن أين يُحرز انه سيستغفر ويتوب ، لأن المراد من قوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) هو الإجتناب الأبدي الدائمي وليس الإجتناب الوقتي كأن يكون في شهر أو في سنة فان هذا المقدار من الإجتناب يصدر من أفسق الفاسقين ، فاذن لو فعل الإنسان ذنباً فانه اذا استغفر ربه سيُمحى له بشرط أن لا يرتكب الكبائر طيلة عمره ، وكيف يُحرز ذلك ، حتى يقول عند ارتكابه للصغيرة أنّي سأرتكبها لأنني أعلم أن الله سيغفرها لي.
من فضاكن المحقق الخوئي قال : بأنه لا مانع من ذلك لأننا نستصحب من أنه لا يرتكب المعاصي والكبائر مستقبلاً ، ومع إستصحاب لعدم إرتكابه للمعاصي المستقبلية ، فانه يستطيع أن يقول أنا سأرتكب هذه الصغيرة وسأستغفر الله ويغفر لي وأنا لست من الذين يقترفون الكبائر.
ولكن قوله هذا واضح الفساد : لاننا وإن كنّا نصحح الإستصحاب الإستقبالي من فضاكن بشرط أن نظن ظناً إطمئنانياً بعدم وجود ما يخالف ذلك ، فلو وجدنا في المستقبل ما يخالف ذلك فلا مسرح للإستصحاب الإستقبالي ، وهنا الظن بالخلاف موجود ، لأن المتشرع يعرف جيداً أن إبناء آدم غير معصومين وأن المعصية موروثة فيهم من آدم (عليه السلام) ، وكذلك يعرف أن (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وأن الشيطان للإنسان عدو مبين) فاذن هو يظن بارتكاب المعاصي وهذا علم إطمئناني معتبر ، فاذا كان الأمر كذلك فكيف يُحرز بالإستصحاب أنه لا يرتكب المعصية؟ فسقط هذا الإستصحاب عن الكاشفية والطرقية فحينئذ يسقط عن الإعتبار حتماً لوجود العلم الإجمالي بارتكابه المعاصي .
وربما هناك تفصيل آخر
وهو إن الصغائر التي تصدر عن إلتفات الى حرمتها ومن دون عذر عرفي من خجل أو حياء وما اليهما هي موجبة للخروج عن رسوم العبودية ، والتي تصدر لا عن التفات وكانت بعذر من خجل وحياء ونحوهما فانها لا تمثل خروجاً عن رسوم العبودية ، لأن العرف المتشرعي قد يتسامح في مثل هذه الأمور فلا يعدها ذنباً يستحق عليه العقاب بخلاف الكبيرة ، فالذي ينظر الى إمرأة خجلاً من الاّ ينظر اليها أو يصافح أمرأة أجنبية حياءً من هتكها أمام الناس ودفع الحرج عنها أو لا يخرج من مجلس الغيبة حياءً أو يترك الأمر بالمعروف خجلاً وما الى ذلك فهذا لا يُعدّ بنظر العرف هاتكاً لحرمة المولى لأنه لو اعتذر لهم وقال بأنني قد خجلت أو أنني أستحي لقبلوا إعتذاره ويبقى متصفاً عندهم بالستر والعفاف ، ولا يرضى الشارع الأقدس أن ينعته أحد بالفسق وأنه خارج عن جادة العبودية ما دام أنه باقٍ على صفة الستر والعفاف في نظر العرف .
وهذا بخلاف الكبائر فان العرف المتشرعي لا يتسامح فيها فلو زنا شخص حياءً من إمرأة أن يردها إن استدعته أو يشرب الخمر خجلاً من إستدعاء صديق أو يقتل نفساً ، لأنها غير قابلة عندهم للمسامحة ولا يقبلون الإعتذار من الفاعل بل يؤنّبونه ويوبخونه ، فاذن الذي يعتبر في تحقق وصف العدالة أن يكون الشخص مجتنباً عن كل ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف وكذا عن الصغائر مع الإلتفات الى حرمتها أو يستند مرتكبها الى عذر عرفي ، وأما الصغائر التي يستند فاعلها الى عذر عرفي فهي لا تسمى معصية في النظر المتشرعي ، وذلك لأن مفهوم العدالة والفسق كسائر المفاهيم التي يتسامح فيها العرف كاطلاق الحنطة على الحنطة التي تشتمل على قليل من التراب أو إطلاق الماء على الماء الذي يحتوي على الملح أو التراب ونحو ذلك .
من فضاكن هذا التفصيل لا وجه له بل هو ساقط عليل
لأن الحاكم باعتبار المعصية الصادرة من العبد ليس هو العرف العام بل هو العرف الخاص أي العرف المتشرعي ، والعرف المتشرعي يصف كل من خالف المولى بأنه خارج عن جادة الشريعة وغير مستوٍ على الطريقة المستقيمة وأنه غير مبالٍ بدينه وغير متحفظ على مرادات المولى ويصفه كذلك بأنه يطلب رضا الناس بسخط الخالق، فاذن هناك أكثر من مورد بسببه يُسلب عنوان العادل من هذا المرتكب لهذه الصغيرة عن عذر عرفي في النظر المتشرعي ، وأما العرف العام فلا مجال له لأنه منعزل عن إيحاءات الشارع الأقدس ولا يعرف دقائق الشارع وحقائقه فكيف يُعتمد عليه في تشخيص مثل هذه الأمور التي يكون للشارع كل الدور في تشخيصها، وعلى هذا فان العرف المتشرعي يكون مخطّئاً للعرف العام فلا مجال لـ (كل ما نظر اليه العرف نظر اليه الشارع) ، نعم : تجري هذه القاعدة في حال عدم وجود تخطئة من الشارع للعرف ، بينما اذا وُجدت التخطئة الصريحة كما في مقامنا هذا فلا مجال لإعمال وتفعيل العرف العام.
وأما ما ردّ به المحقق الخوئي على هذا التفصيل من أن هذا الأمر يتبع تطبييق الماهيم العرفية على مصاديقها وأن العرف أبعد ما يكون عن ذلك ففي غير محله لما أكدناه في أكثر دروسنا من أن هذا المشهور (ان العرف يشخّص المفاهيم وليس له تطبيقها على المصاديق) من المشهور الذي لا أصل له إطلاقاً ، لأنه بعد أن كان تشخيص المفاهيم بيد العرف فان الطريقة العرفية العامة المتبعة في المخاطبات التحاورية فيما بين أبناء العرف يرون أنه العرف له الحق أن يطبّق ذلك الذي شخّصه على المصداق الذي يعرفه إذا لا معنى للتفكيك بين الحالين في النظر العرفي بين حال تشخيص المفاهيم وان العرف له الحق فيه وبين تطبيق تلك المفاهيم على مصاديقها وأن العرف لا يحق له ذلك ، ما لم يرد ردع من الشارع الأقدس عن إتباع مثل هذه الطريقة العرفية العامة في التحاور العرفي ، ولا يوجد ردع من الشارع الأقدس عن هذه الطريقة لا من قريب ولا من بعيد فنستكشف من ذلك أنه راضٍ بهذه الطريقة أي طريقة تطبيق المفاهيم العرفية على المصاديق العرفية إذ لو كانت عنده طريقة أخرى لبيّنها وإلاّ لكان مفوتاً لأغراضه مضيّعاً لمراداته وتجلّ ساحته عن ذلك، وعليه فلو قال الشارع أعط الفقير كيلو من الطحين فلو أعطاه (999غم) فانه يعدّ ممتثلاً ومطيعاً .
وهناك مباحث كثيرة حول هذه المطالب كلها سطرناها في شرحنا للمنهج في كتابنا الكبير ، (فاضـل البديـري4شهر رمضان 1431هـ