مسألة (24) : إذا كان مجتهداً غير عادل أو غير أعلم أو غير ذكر أو غير بالغ جاز له العمل بفتواه لنفسه ولم يجز له تقليد الآخر ، وإن كان أعلم ، نعم : الأحوط له العمل بالإحتياط في بعض المسائل.
الشـرح
إذا وصل الشخص الى رتبة الإجتهاد واستطاع أن يصل الى أحكام المولى بنفسه فهو قد أصبح من أهل الخبرة وأصبح خبيراً عالماً ويكون وصوله الى الحكم الشرعي بنظره وبحسب فتواه وصولاً صحيحاً ، وقلنا سابقاً أن العبد مخاطب من قبل العقل المذعن بمولوية المولى وطاعته بلزوم الوصول الى مرامات المولى وإلزاماته وصولاً واقعياً قطعياً فان لم يستطع فوصول ظاهري تعبدي ، لأن العقل بعد أن أذعن بأن للكون خالقاً وأذعن ان هذا الخالق واجب الطاعة لأنه منعم وشكر المنعم واجب وشكره هي طاعته وإحترامه والإمتثال لأوامره وعدم التعدي على حرمته والخروج عن رسوم عبوديته ، واذعن بأن هناك تكاليف جاءت بها الرسل وحكم بأنه لابد من الخروج عن عهدة هذه التكاليف التي تعلقت بذمته فحكم بأن هناك ثلاث طرق للوصول الى تلك التكاليف بحسب إستقرائه وهي إما الإجتهاد وإستفراغ الوسع العلمي في إستنباط هذه الأحكام من مظان أدلتها ، وإما الإحتياط وأن يأتي بجميع محتملات التكليف ، وإما التقليد والرجوع في معرفتها الى العالم الخبير المُحرز الخبروية وليس هناك قسم رابع.
فما دام قد وصل الشخص الى العالمية والخبروية ووصل الى أحد هذه الثلاث فلا يجوز له بعد ذلك الرجوع الى باقي الطرق فلا يجوز له الرجوع الى التقليد ولا الى الإحتياط المطلق ، أما أنه لا يجوز له الرجوع الى التقليد فلأجل أن التقليد هو رجوع غير الخبير الى الخبير في مجال إعمال خبرته وممارسته لعملية خبرته ، فالمجتهد الممارس للإستنباط له ثلاث حالات :
1- ممارس في كل أبواب الفقه وهذا مما لا ريب فيه قد حصلت عنده ملكة الإستنباط بكاملها وأتصف بها قهراً فهو خبير بكل الفقه ويسمى بالمجتهد المطلق من فضاكنه فاقد لأحد شروط التقليد وهو أحد المذكورات في رأس المسألة ولذلك لا يجوز تقليده من قبل العوام، وهذا الصنف لا يجوز له تقليد الغير إطلاقاً لماذا ؟ لأنه عندما وصل الى الحكم الشرعي بنفسه وبإعمال وتفعيل قواعد الإستنباط لديه فهذا يعني أن فتواه صحيحة بحسب نظره وفتوى الغير إن كانت مطابقة لفتواه فهي صحيحة أيضاً وإن كانت مخالفة لفتواه فهي خاطئة بنظره ، فاذا قلّد الغير فلا يقلده إلاّ في الفتوى المخالفة لما أفتى به طبعاً لأنه من غير المعقول أن يقلّده في الفتوى المطابقة لفتواه ، فاذا كانت فتواه مخالفة لما أفتى به هو فهذا يعني أنه ذهب الى طريق غير موصل الى أحكام المولى بنظره والعقل الإنساني يأبى مثل هذا التصرف لأنه بعد أن حكم بمخطأية فتوى ذلك الغير فان العقل الإنساني يرفض أن يذهب الى طريق غير موصل للمطلوب المولوي ولا يكون إنتهاءً الى حكم الكتاب والسنة، وهذا واضح لا إشكال فيه.
2- ممارس في جملة معتد بها من أبواب الفقه وهذا ايضاً يكون إطلاق الملكة عليه قد إنطبق قهراً وهذا هو المجتهد المتجزئ من فضاكنه أيضاً فاقد لأحد شروط التقليد له، فهذا أيضاً لا يجوز له التقليد للغير في هذه المسائل التي إستنبطها ووصل الى حكمها لما قلناه أعلاه ، نعم : يجوز له بل يجب عليه أن يحتاط في ما يمكن فيه الإحتياط كما أوضحناه في (مسألة 2) وإن لم يستطع الإحتياط يقلّد الغير الأعلم منه.
3- ممارس في بعض المسائل الفقهية القليلة في أبواب الفقه وهذا فقيه متجزئ جداً وفاقد لأحد شروط التقليد له، وهذا أيضاً لا يجوز له تقليد الغير في هذه المسائل لما قلناه أعلاه أيضاً.
ولكن الكلام وقع في ما اذا كان ذلك الغير هو الأعلم ، فالمستفاد من كلام سيدنا الأستاذ الأعظم (رضوان الله عليه) هنا هو التعميم أي حتى إذا كان الفقيه الآخر هو الأعلم لا يجوز الرجوع اليه في الأحوال الثلاثة أعلاه ، من فضاكن يمكننا ان ننظر في كلامه أكثر ، لأن المتأمل المنصف يرى التفصيل فنقول : إذا كان هذا الفقيه بأقسامه الثلاثة أعلاه يرى أن ذلك الفقيه المطلق الآخر المستجمع لشرئط التقليد أعلم منه على الإطلاق فانه عندما يرجع اليه مع كونه مجتهداً فذلك يعني أنه لم يقطع بفتواه التى إستنبطها بل قطع بفتوى ذلك الغير أي ذلك الفقيه المطلق المخالفة لفتواه الذي يراه أنه الأعلم ، ففي هذه الحالة لا تبقى حجية لرأيه لأن فتوى الفقيه المطلق الأعلم التي على خلاف رأيه توجب إنسلاخ الحجية عن رأيه وانثلام الكاشفية عنها فلا يجوز التعويل على رأيه بل يكون التعويل كله لفتوى ذلك الفقيه المطلق لبقاء حجيتها على حالها.
وأما إذ كان لا يرى أن ذلك الفقيه المطلق هو الأعلم منه في هذه المسائل إتجه القول حينئذ بعدم جواز الرجوع اليه، ولعل سيدنا الأستاذ الأعظم (رضوان الله عليه) إعتمد على هذه القرينة فعمم الكلام .
نعم في كل الأحوال له الحق في الرجوع الى الإحتياط بين قوله وقول ذلك المجتهد المطلق في المسائل التي لا محذور فيها من الإحتياط، لأن العقل المذعن بمولوية المولى يرى أن الجمع بين القولين فيه تمام الكاشفية عن المراد المولوي وفيه تمام الطرقية للوصول الى المطلوب المولوي.
فتلخص مما قلناه : إذا كان مجتهداً وقد أحرز ذلك الإجتهاد بدليل معتبر ولكنه فاقد لبعض الشروط الأخرى كفقده للعدالة أو للذكورية أو للأعلمية أو للبلوغ فانه يجوز العمل بفتوى نفسه لأنها حجة عليه لأنه وصل اليها بدليل معتبر وصولاً كاشفاً عن الواقع ، وأما الشروط الأخرى فهي حجة على الغير لا على نفسه، وعليه فلا يجوز له الرجوع الى مجتهد آخر وإن كان أعلم منه من فضاكنه لم يرً أنه أعلم منه ، وإلاّ لو كان يعلم أن ذلك الغير أعلم منه على الإطلاق ففيه تأمّل، وأما العوام فلا يجوز أن يقلّدوه لأنه قد فُقد منه أحد شروط التقليد المعتبرة في الرجوع الغير اليه، وهذا يساعد عليه السيرة العقلائية المستمرة والقائمة بين أبناء العرف العام ، والمتشرعة سادة العقلاء فلابد وأن ينساقون وراء قرائحهم العقلائية ، والعقلاء يرفضون رجوع الخبير الى الخبير في مجال إعمال الخبرة من طراز واحد وصنف واحد ، ويستسيغون جداً العمل لنفسه فالطبيب في مجال إعمال خبرة الطب يرجع الى نفسه في تشخيص مرضه الذي هو خبير به نعم له الحق ان يذهب الى طبيب آخر في غير مجال خبرته كأن يذهب اليه لأنه مريض بالسكري وهو ليس من إختصاصه ذلك ،وهكذا كل أبناء أهل الخبرة. (فاضـل البديـري7 شهر رمضان 1431هـ)