مسألة (6) فرع ج : يشترط فيمن تقلّده ما يلي :
سابعاً : الحياة للتقليد إبتداءاً
مسألة إشتراط الحياة للتقليد إبتداءاً من المسائل التي استحدث البحث عنها العلماء المتأخرون, ولم نعثر في كتب علمائنا القدماء على شيءٍ يدل على أنهم تعرضوا لها , لا في كتبهم الواصلة الينا , ولا في مجالات بحوثهم, ولا في فتاويهم , ولا حتى في أجوبة مسائلهم ، نعم هم بحثوا مسائل التقليد وما يعتبر في المجتهد من الشروط , من فضاكنهم لم يذكروا إعتبار شرط الحياة في المجتهد .
ولم نتحقق من زمن وتأريخ منشأ تحرير هذه المسألة في الفقه , لأنها ليس لها مكان عندهم في الفقه , ولم يُفردوا لها باباً مستقلاً حتى نعرف تأريخ بحثها أو التعرّض لها أو طريقة الاستدلال على فروعها لأنه لم يصلنا كتاب استدلالي منهم نعرف بواسطته طريقة كيفية بحثهم وتنقيبهم ، إلاّ بعض الكتب الأصولية المختصرة ، بل يبدؤن دائما من كتاب الطهارة وينتهون بآخر كتاب الديات الى زمن المعاصرين تقريباً الذين جعلوها كمبحث مهم في الفقه فاسموه بكتاب الاجهاد والتقليد، فبحثوا فيه كل ما يتعلق بهذه المسألة وتوسعوا فيها ، وهذا واضح لكثرة الإبتلاء فيها .
وكيف كان : فهناك من علمائنا من يقول بجواز التقليد إبتداءاً للمجتهد الميّت وقد ذكرت اسمائهم وأقوالهم كاملة في كتابنا (كشف الأسرار في تقليد المجتهد الميّت في الإبتداء والإستمرار) لأنني أذهب الى الجواز بشرط أن لا يمنع منه جميع العلماء وقد بلغ عدد ما ذكرت (34عالماً) ، فمن علمائنا الأخباريين :
1- الشيخ الكليني محمد بن يعقوب (قدس) , المتوفى سنة (329هـ) في مقدمة ديباجة كتابه الكافي .
2- الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي (قدس) , المتوفى سنة (381هـ) أيضا في مقدمة ديباجة كتابه من لا يحضره الفقيه , فانه يصرح دائما بجواز العمل بكتابه في حياته وبعد مماته لتعهده بمقدمة كتابه بأنه لا يذكر فيه الاّ الروايات التي يفتي على طبقها وهو حجة بينه وبين ربه , وهذا صريح منه بجواز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً .
3- والده : الشيخ علي بن الحسين (قدس) ، المتوفى سنة (329هـ) عندما ألّف كتابه في الأحكام الشرعية دفعه إلى ولده ليعمل به , وهو صريح منه أيضاً بجواز تقليد المجتهد الميت ابتداءاً، وإلاّ لماذا دفعه اليه ليعمل به ؟.
4- الشيخ محمد أمين الأستربادي (قدس) , المتوفى سنة (1036هـ) في كتابه (الفوائد المدنية) فقال بالجواز وأصر عليه غاية الاصرار.
5- الشيخ محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني (قدس) , المتوفى سنة (1091هـ) في مقدمة كتابه الوافي , فانه قال : انه لا إشكال في جواز تقليد المجتهد حياً وميتاً .
6- السيد نعمة الله الجزائري (قدس) , المتوفى سنة (1112هـ)في كتابه (منبع الحياة) فانه بنى على أن تقليد المجتهد حياً وميتاً من المسلّمات عندنا .
7- الشيخ يوسف البحراني (قدس) صاحب الحدائق , المتوفى سنة (1187هـ) حيث ذكر ذلك في رسالة خاصة بهذه المسألة - اطلعت عليها شخصياً عند أحد الفضلاء منذ زمن وهي مخطوطة ثم بحثت عنها فلم أجدها - وقد أشار اليها في كتابه (الدرر النجفية رقم 12) حيث قال ما لفظه : (المرجع في استعلام من له اهلية الحكم والفتوى - وهو من اتصف بالعلوم والملكة مع تسربله بسربال الورع والتقوى - إما الى المعاشرة التامة من مثله في العلم والعمل , أو شهادة عدلين بذلك , أو عرض فتاويه مع فتاوى من تكون له القوة القدسية والملكة العلمية , أو عمل أهل العلم بأقواله وفتواه ولا فرق في العمل بقوله بين كونه حياً أو ميتاً).
وأما من فقهائنا المجتهدين الاصوليين فهم ثلة من أكابرهم , فمنهم:
1- الشيخ العلامة الحلي الحسن بن يوسف , المتوفى سنة (726هـ/1326م) , فإنه قد ذكر الشيخ المحقق الثاني علي بن الحسين الكركي (قدس), المتوفى سنة (940هـ) في تعليقاته على كتاب الامر بالمعروف من شرائع الاسلام عن الشيخ فخر المحققين إنه حكى عن والده العلامة , جواز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً فيما إذا خلا العصر من المجتهد أو تعسر حصوله، وهذا يعنى الجواز .
2- الشيخ الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي (قدس) , الشهيد سنة (786هـ/1384م) حيث قال في كتابه الذكرى ما لفظه : (إن المستفتي إن وجد المجتهد لم يجز له الاستفتاء من الحاكي عنه سواءٌ أكان من حي أم من ميت , لأنه مكلف بأخذ أقوى الظنين فيتعين عليه كالمجتهد فانه يجب عليه العمل باقوى الدليلين , فان لم يجد من يحكي عنه وجب ان ياخذ من المجتهدين الماضين) .
3- الشيخ زين الدين علي بن هلال الجزائري (قدس) , المتوفى سنة (910هـ/1504م) فقد ذكر مثل ما ذكره الشهيد الاول .
4- الشيخ المحقق الفاضل التوني (قدس) , المتوفى سنة (1071هـ/1660م) فقد ذكر في كتابه (الوافية) بعد أن رد أدلة القائلين بالمنع من التقليد الإبتدائي وأبطلها ما لفظه :
(الذي يختلج في الخاطر في هذه المسألة , إن من علم ان المجتهد لا يفتي في المسائل إلا بمنطوقات الادلة ومدلولاتها الصريحة - كإبني بابويه وغيرهما - يجوز تقليده حياً أو ميتاً , ولا تتفاوت حياته وموته في فتواه, وأما من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل باللوازم غير البينة والافراد الخفية فيشكل تقليده حياً وميتاً , فإن من تتبع وظهر له كثرة إختلاف الفقهاء في هذه الاحكام يعلم أن قليل الغلط قليل مع أن شرط التقليد ندرة الغلط) .
قال بعض المعلقين عليه : وهذا يدل على أنه (قدس) إما يمنع من تقليد المجتهد مطلقاً حياً أم ميتاً أو يُجوِّز مطلقاً كذلك , والاول ممنوع على مذهبه فيتعين الثاني وهو الجواز حياً أو ميتأً ، وهو تعليق متين رائع .
5- السيد المحقق محسن الأعرجي (قدس) المتوفى سنة (1227هـ/1812م) في كتابه الوافي في شرح الوافية , فقد قال ما لفظه : (إن الإنسان إذا علم إن جواز إستفتاء المقلد عن المجتهد انما هو لأنه مخبر عن أحكام الله تعالى , فحينئذ يحصل له القطع بأن حياة المجتهد وموته لا يحتمل أن يكون مؤثراًً في ذلك , ومن أن المجتهد إذا غاب جاز العمل بقوله فكذا إذا مات).
6- الشيخ المحقق أبو القاسم القمي محمد حسن (قدس), المتوفى سنة (1231هـ/1816م) في كتابه (القوانين) حيث قال ما لفظه:
(وفي جواز العمل بالرواية عن المجتهد الميت خلاف , والمشهور عند أصحابنا العدم - عدم جواز تقليده المجتهد الميت- وعندهم – يعني علماء الجمهور - الجواز , ولذلك صار بنائهم على تقليد الأئمة الاربعة - يعني رؤساء المذاهب الأربعة - بل على الاجتهاد في أقوالهم والعمل به والقائل بالجواز من الأصحاب المتأخرين قليل بل لم نعرف بالخصوص قائلا به , ثم قال : والاحتجاجات المذكورة لنفي الحجية - حجية قول المجتهد الميت - كلها ضعيفة , ثم قال : أقول الحق هو جواز التقليد للمجتهد الميت ابتداءاً) .
ثم أخذ في نقل كلمات علمائنا الأعلام (قدس) وفي تشييد بناء جواز تقليد الميت ابتداءاً وتأسيس أركانه .
7- العلامة السيد محمد المجاهد الطباطبائي (قدس) صاحب كتاب (المناهل) , المتوفى سنة (1242هـ/1826م) نجل السيد علي صاحب الرياض المتوفى سنة (1231هـ) , حيث قال في كتابه إصلاح العمل عند تعرضه للمسألة ما لفظه : (والأقوى هو الجواز - جواز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً - لو كان الميت أعلم).
8- العلامة السيد إبراهيم بن محمد باقر القزويني الحائري (قدس) صاحب كتاب (ضوابط الأصول) , المتوفى سنة (1264هـ/1847م), حيث قال في الضابطة التي عقدها في مسألة جواز تقليد المجتهد الميت وعدمه ما لفظه :
(والحق جواز تقليد المجتهد الميت بدوا في كل الأقسام الثلاثة - ويعني بالأقسام الثلاثة ما إذا كان مقلدا له في حياته ثم مات وما لم يقلده في حياته ثم مات وما كان لم يكن موجودا في حياته - لان تقليد الميت ابتداءاً قسمان : قسم كان المكلف حين وجود ذلك المجتهد موجوداً وكان تقليده له جائزاً لكن اتفق انه لم يقلده , وقسم لم يكن المكلف موجوداً حين حياة المجتهد كذلك , فنقول في القسم الأول بجواز تقليد الميت لاستصحاب جواز تقليد هذا المكلف لذلك الميت الذي كان حيا واستصحاب صحة التقليد المتقدمة الموجودة حال الحياة للمجتهد , ويتم الأمر في القسم الثاني بالإجماع المركب ولا يمكن القلب لان ضميمة إجماعنا وهي الاستصحاب أقوى من ضميمة المقابل وهي اصل الاشتغال والمانعون لم يفرقوا بين القسمين والمجوزون كذلك...إلى آخر ما أفاده في تقوية القول بالجواز).
9- العلامة المرجع الشيخ محمد بن علي الرازي الخليلي (قدس), المتوفى سنة (1280هـ/1863م) حيث نقل عنه السيد العلامة محمد مهدي الاصفهاني انه قال في رسالته الخاصة بالاجتهاد : (لا مانع أبداً من تقليد المجتهد الميت إبتداءاً) .
10- الشيخ الفاضل الدربندي الآغا الحائري المشهور (قدس) المتوفى سنة (1285هـ/1868م) كما حكاه عنه في هامش القوانين صاحب حديقة الأصول , ذكر ذلك السيد محمد مهدي الاصفهاني في رسالته.
11- العلامة المرجع زين العابدين المازندراني الحائري (قدس)المتوفى سنة (1309هـ/1891م) في كتابه (زينة العباد) , حيث قال ما لفظه : (وإذا لم يقلّد ذلك المجتهد أصلاً أو قلده في مسألة خاصة وبعد موت ذلك المجتهد يريد أن يقلد الميت لا يخلو من القوه خصوصا في الوقت الذي أدرك زمانه وخصوصا في الصورة التي كان فيها ذلك المجتهد الميت اعلم من الحي وخصوصا في الصورة التي ظن المقلد بصحة قول ذلك المجتهد أقوى من الحي , ثم قال : من فضاكن من جهة الشهرة ونقل الاجماعات الكثيرة على عدم جواز تقليد الميت ابتداءاً الاحوط الترك).
12- العلامة السيد محمد باقر الموسوي الخونساري النجفي (قدس) صاحب كتاب (روضات الجنان) المتوفى سنة (1313هـ/1894م) فقد ذكر ذلك في كتابه شرح الألفية , كما نقله عنه الأصفهاني في رسالته .
13- المرجع الشيخ حسين بن خليل الخليلي الرازي (قدس), المتوفى سنة (1326هـ/1909م) , حيث قال في أجوبة مسائله التي نقلها عنه السيد الأصفهاني في رسالته ما لفظه : (لا فرق في أخذ الفتوى من الحي أم من الميت على حد سواء , فإن موت المجتهد لو كان مؤثراً في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجباً لتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله , وهل هذا الا مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان).
14- العلامة المرجع الشيخ فتح الله الأصفهاني (قدس) المعروف بشيخ الشريعة ، المتوفى سنة (1339هـ/1921م) فقد نقل السيد الأصفهاني عن رسالة لبعض معاصريه ان الشيخ (قدس) كان يصرح بجواز التقليد الإبتدائي في مجالس بحثه ودروسه.
15- العلامة المرجع الشيخ حبيب الله بن علي الكاشاني (قدس)، المتوفى سنة (1340هـ/1922م) ذكر الجواز في منظومته في الفقه.
16- العلامة المرجع السيد عبد العلي الخونساري النجفي (قدس) المتوفى سنة (1346هـ/1929م) , فقد ذكر تلميذه السيد الأصفهاني في رسالته :
إنه (طاب ثراه) كان يصرّح بجواز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً في مباحثه ودروسه وكان ينص على ذلك في رسائله وأجوبة مسائله , ومصراً عليه غاية الاصرار , ويصرح به على رؤوس الأشهاد.
17- العلامة الشيخ محمد حسين الفشاركي الأصفهاني (قدس) ، المتوفى سنة (1353هـ/1936م) ، حيث ذُكر في رسالته المختصة بهذه المسألة على ما نُقل عنه قوله : (الأقوى جواز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً إذا كان أعلم).
18- السيد آية الله المرجع رضا الصدر بن المرجع الكبير صدر الدين الصدر (قدس), المتوفى سنة (1373هـ/1953م) , في كتابه الاجتهاد والتقليد (من ص 120 الى ص 145) , حيث أسس الاصل الأولي في الحكم بالمسألة وهو جواز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً وأثبته بالأدلة , ثم تعرّض لذكر أدلة بعض العلماء التي تهدم هذا الأصل فأثبت بالأدلة الدامغة إنه لا دليل صالح إطلاقاً لمعارضة هذا الأصل وتقدُّمه عليه فبقيت اصالة الجواز على حالها وهو المطلوب , بل ذهب (قدس) الى أكثر من ذلك : بأن القدماء يقولون بالتقليد الإبتدائي وأن المنع منه إنما حصل عند بعض المتأخرين ومشهور المعاصرين .
19- العلامة السيد محمد مهدي الأصفهاني الكاظمي (قدس)المتوفى سنة (1395هـ/1975م) حيث قال في رسالته الموجودة عندنا التي أعدها لذلك قاطعاً بالجواز : ( يجوز تقليد المجتهد الميت إبتداءاً مطلقاً, ولامانع منه أبداً).
20- العلامة آية الله السيد محمد رضا الخلخالي (قدس)الشهيد سنة (1413هـ/1992م) فانه بعد أن رفض أدلة حرمة التقليد الإبتدائي التي إستدل بها السيد الخوئي في كتابه (دروس في فقه الشيعة) أثبت عدم المانع من تقليد المجتهد الميت إبتداءاً أبداً , وقال : (إنه لم يصلح أيُ دليل يمكننا بواسطته القول بحرمة التقليد الإبتدائي).
21- السيد المرجع عبد الأعلى الموسوي السبزواري (قدس) المتوفى سنة (1414هـ/1993م) في كتابه (مهذب الأحكام) , فانه قد مال جداً إلى القول بالجواز , من فضاكنه تردد في المسالة في مقام العمل والفتوى , ولم يُفتي به صراحة , نظراً الى دعوى الإجماع التي لم يقتنع بها مع أنه شديد الاهتمام بالاجماع , حيث قال ما لفظه :
(وخلاصة الكلام من المبدأ إلى الختام : إن المقتضي لتقليد الميت ابتداءاً والبقاء عليه مطلقاً موجود , والمانع منحصر بدعوى الاجماع على المنع في التقليد الابتدائي دون البقاء مع أن إعتباره في مورده مشكل فكيف بغيره).
22- السيد المرجع محمد الحسيني الشيرازي (قدس)المتوفى سنة (1422هـ/2001م) , فانه أيضاً قد مال اليه بصورة واضحة , من فضاكنه لم يفتي به , فقد قال في كتابه الفقه ما لفظه :
(وحيث ان ما ذكرنا من بناء العقلاء - جواز رجوع الجاهل الى العالم وان كان ميتاً - كافٍ في هذه المسألة خصوصاً إذا كان الميت أعلم , ثم قال : ولو كان هناك إنصراف من إطلاق الأدلة إلى الحي فهو بدوي كما لايخفى , وكل ذلك حسب الأدلة العملية , أما الأدلة في مقام العمل فالأحتياط طريق النجاة فيه) .
23- آية الله العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين (قدس) , المتوفى سنة (1424هـ/2003م) في كتابه الإجتهاد والتقليد المقارن، حيث قال ما لفظه :
(إنه لا حاجة إلى إثبات جواز تقليد الميت إبتداءاً - فضلاً عن البقاء عليه - إلى الإستصحاب , وأنه لا مورد للأصل العملي في المسألة , وذلك من جهة دلالة الادلة الاجتهادية على مشروعية تقليد الميت إبتداءاً وإستمراراً , وهي الكتاب والسنة والسيرة العقلائية الممضاة من الشارع).
24- السيد المرجع تقي الطبأطبائي القمي (دام ظله) , في تعليقته على العروة الوثقى للسيد اليزدي (قدس) وفي كتابه مباني منهاج الصالحين للسيد الخوئي (قدس) فانه قد تردد في المسألة , ومال اليه , من فضاكنه لم يفتي به , حيث قال في المباني - بعد حكم المصنف بعدم الجواز - مالفظه :
(لو لم يدل دليل على الجواز يكون مقتضى الأصل الأولي عدم الجواز إذ مرجعه الشك في جعل الحجية ومقتضى الأصل عدم الجعل, فلابد من النظر في أدلة التقليد كي نرى هل تشمل الميت أو لا ؟).
ثم ساق الأدلة وناقشها ولم ير دليلاً صالحاً لعدم الجواز بل الدليل صالح لشمولها للحي والميت .
وقال في كتابه (الغاية القصوى) ما لفظه: (إذا عرفت ما تقدم نقول: إن المستفاد مما تقدم , إن المقتضي لإعتبار قول الميت موجود, والذي ذكر في مقام الردع امور , وتعرضنا لكل واحد منها وأجبنا عنه - وهي أدلة المانعين من إجماع وأصل وشهرة - وأجبنا عنها بأنها غير صالحة لأن تكون دليلاً على الردع).
25- شيخنا المعاصر المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله) فقد مال اليه في بحثه في الفقه ومنع من دليل الأجماع القائم على عدم الجواز الذي هو عمدة أدلة المانعين , إلاّ إنه لم يفتي به مطلقاً , من فضاكنه أفتى به على نحو الموجبة الجزئية , وخصوص إذا كان الميت أعلم وخصه بالمرجع السيد الخوئي (قدس) المتوفى سنة (1413هـ), وهذا تصريح منه (دام ظله) بالجواز .
26- السيد المرجع صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه (بيان الفقه) , ولكنه قيده بالضرورة , حيث قال بعد بحث المسألة ما لفظه : (وقد إتضح من مجموعها - مجموع الادلة على الجواز - إن مقتضى الصناعة جواز الرجوع الى المجتهد الميت حتى إبتداءاً , من فضاكن الاجماع المدعى والشهرة العظيمة القطعية على عدم جوازه وتوفر الفقهاء الأحياء في مثل هذه الأزمنة في كل مكان يلزم معها الركون الى الإحتياط وعدم الإقدام على تقليد الميت إبتداءاً إلا إذا أدت الضرورة إلى ذلك).
27- آية الله الشيخ محمد المؤمن القمي (حفظه الله) حيث قال في كتابه (تسديد الأصول) ما لفظه :
(أن العمدة من أدلته إنما هي مسألة رجوع الجاهل إلى العالم التي هي قاعدة أصيلة عقلائية ، وإذا راجعنا العقلاء في حدود رجوعهم إلى العلماء في غير باب الأحكام الشرعية نراهم لا يفرقون بين الحي والميت قطعا، فهل ترى أنهم إذا أرادوا الوقوف على خواص بعض النباتات مثلا، قد ذكرها الشيخ الرئيس أو بعض آخر من علماء هذا الباب في كتبهم، فهل ترى فرقا في حجية ما ذكره في كتابه بين زمان حياته وما بعد وفاته، أم لا تشك في أنه إذا اريد الأخذ بنظره ورأيه فآرائه المسطورة في كتابه حجة وطريق معتبر يؤخذ بها في كلتا الحالتين؟ وهذا واضح جدا لا ينبغي الريب فيه أصلا ، وحينئذ فمقتضى السيرة العقلائية حجية قول الميت من أهل الخبرة كما إذا كان حيا، وقد عرفت أن مبنى جواز التقليد هو هذه السيرة وأن الأدلة اللفظية أيضا منـزلة عليه، وحينئذ فمقتضى الدليل الإجتهادي من السيرة والإطلاقات جواز تقليد الميت أيضا كما في الحي ، فالمتحصل بمقتضى الاصول العملية والأدلة الاجتهادية جواز تقليد الميت كالحي) ،انتهى.
فهولاء الأعلام وغيرهم (أعلى الله مقامهم) والذي بلغ مجموع من وصلنا من رأيهم (34عالماً) ممن ذهبوا إلى جواز تقليد الميت ابتداءاً , وقد ذكرناهم بأسمائهم على سبيل العجالة ليطلع القارئ الكريم على الثقل الفقهي في الوسط العلمي للقائلين بالجواز .
ليست مجازفة
إن عدم تعرض علمائنا الأجلاء القدماء لمسألة التقليد الإبتدائي مع انهم كانوا حريصين على تأصيل وإثبات كل مسألة شرعية ولا سيما إذا كانت من مختصات مذهبنا يدل على انهم مجمعون على القول بجواز التقليد الإبتدائي , وإلاّ فبماذا يُفسر سكوتهم عنها وإهمالهم لها رأساً ؟ وهي بهذه المثابة من الأهمية ، مع أنهم بحثوا مسائل واضحة الحكم بل وقليلة الابتلاء .
فتحصل : إن لم يوجد المجتهد الحي الجامع لشرائط الإفتاء وجب الرجوع الى المجتهد الميت ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء قاطبة ، وإنما الخلاف فيما إذا وُجد الحي ، ومنشأ الخلاف ما سنعرفه من الأدلة.
وقفة مشرّفة مع السيد الشهيد الصدر
سمعت سيدنا الشهيد السعيد برهان المحققين وسلطان المدققين السيد محمد الصدر (أعلى الله مقاماته في أعلى عليين) شخصياً وفي أثناء بعض مباحثةٍ له مع بعض الفضلاء إنه لا يقتنع تماماً بأدلة العلماء المانعين من التقليد الإبتدائي خصوصاً إذا كان الميت أعلم , وسمعت من بعض فضلائنا الثقات بأنه (قدس سره) كان يُشكل على السيد الخوئي والسيد الصدر الأول (قدس سريهما) في بحثيهما على قوليهما بعدم جواز التقليد الإبتدائي إذا كان الميت هو الأعلم .
وسمعته شخصياً عندما سأله أحد المؤمنين بأنه كيف يصنع المضطر في معرفة الحكم ولا يوجد من يُخبره برأيكم ؟ فأجابه (قدس) : بانك تأخذه من أي عالم شيعي مجتهد وإن كان في كتابٍ له حياً كان أم ميتاً مثل كتاب الشرائع أو اللمعة أو غيرهما.
وكان يصرّح دائماً وعلى رؤوس الأشهاد ويصدح بصوته بأنه أعلم الأحياء والأموات , وأنه يجب تقليد الأعلم الورع التقي ولم يقيده أبداً بالحي , فاذا كان يقيده به شخصياً في أثناء حياته ولا يُجيز تقليد الأموات ذلك لأنه يرى تقليد الأعلم وانه هو الأعلم , وقد سمعناه أكثر من مرة وهو يكرر عبارة (وضعت لكم فقه أربعين سنة) ومن المعلوم أن هذا الرقم ليس هو النهاية حتى تقول بانه يخص جيله فقط , وانما هو من باب التمثيل بالأغلب , وهذا معروف بلغة الفقهاء بالتمثيل بالأربعين بعكس علماء الأخلاق اللذين يمثلون بالسبعين , وعلماء الكلام اللذين يمثلون بالألف , مع انه كان مصراً غاية الإصرار على إبقاء المجتمع الإسلامي ولاسيما العراقي على منهجه , فهو لم يعمل لجيل واحد أبداً , بل لكل الأجيال , فانتبه واغتنم .
وسأله شخص وأنا جالس : نقلّد من بعدك ؟ فأجاب : قلدوا الأعلم مني إن وُجد ، إنتهى , فهذه إشارة الى ماذا إذا لم يوجد أعلم منه ؟ فالى من ترجع الناس ؟
وأخبرني من أثق به انه سأله - قبل مرجعيته - عن تقليده للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) لنفسه إبتداءاً , فأجابه (قدس سره) بانه يجوز لك ذلك .
وأما أمره (قدس) بالرجوع الى بعض العلماء فإنما هو للرئاسة وإدارة الشؤون وحل المشاكل الشرعية الراهنة التي لابد فيها من وجود الفقيه الحي فيها لا إلى التقليد , إذ كيف يأمر الناس التي تقلده فعلاً بتركه والرجوع الى غيره وهو يُجيز البقاء على تقليد المجتهد الميت صراحة , فإذا وُجد من هو أهلٌ لهذه القيادة وبالمواصفات التي هو يُريدها (قدس) فلابد من الرجوع اليه كائنا من كان .
ولم يفتي صراحة بحرمة التقليد الابتدائي على نحو الإطلاق في كتابه الرئيسي (منهج الصالحين) الذي هو الحجة الرئيسية بل هو الحجة الوحيدة لأحكامه وفتاويه للعباد، نعم جعل اعتبار الحياة من شروط المجتهد المفتي للتقليد الابتدائي وهكذا صنع كل من لم يقتنع قناعة تامة بحرمة التقليد الإبتدائي حتى المحقق الخوئي في منهاجه، ومن الواضح عند أولي الألباب من أهل النظر والتحقيق ولمن جاس خلال الديار ، ان ذلك معناه ان إعتبار الحياة للمبتدئ ليس واجباً إستقلالياً نفسياً بحيث يكون مطلوباً وعلى كل حال ويحرم عليه تقليد الميت مطلقاً ، وإلاّ لجعله فتوى وسطره مع فتاوي كتابه كما صنع غيره ممن يقول بعدم الجواز ، وانما هو واجب شرطي ، بمعنى انه مع وجوده فهو معتبر ولا يسقط الأمر به بل لابد من تحصيله، ومع تخلفه وانعدامه أو تعذّره أو الجهل به فانه يسقط الأمر به لا محالة ، وحيئذ فهو ليس معتبراً بل هو ساقط من رأس ، وهو (قدس سره) هنا يريد ان يقول بنص العبارة : إن وُجد المجتهد الحي الجامع لشرائط الفتوى وقد عرفه المكلف المبتدئ وتيقن به يجب أن يرجع اليه لا الى غيره من الأموات، وإن تعذر ذلك عليه أو تعسر أو جهل به ، أو هو في مورد الفحص ، أو عُدم الفقيه الجامع للشرائط ، أو لم يطمئن به ، فانه وفي كل هذه الأحوال يرجع الى أي مجتهد يقتنع به بعد الفحص وإن كان ميتاً.
فان قلت : على هذا يكون سائر الشروط الأخرى من العدالة والذكورية والاسلام ونحوها من هذا القبيل ، مع أن هذه الشروط بنحو المجموع فان سقط واحد منها سقط الباقي.
قلت : نعم ، كلامكم صحيح ، من فضاكن معنى الشرطية أنها لابد من الامتثال إن وُجد الشرط وإن تعذر فان كان له بديل إنتقل الى البديل وإن لم يكن له بديل سقط طلب الاتيان به أي سقط ذلك المشروط من رأس ، كالطهارة المائية للصلاة إن وجدت فلابد منها وإن تعذرت إنتقل الى بديلها وهو الطهارة الترابية فان فقدت سقطت الصلاة - على قولٍ مختار - إلاّ مع الدليل الخاص ، وهكذا الحياة هنا بديلها الموت ، والذكورية بديلها الأنوثية - على قول مختار- وهكذا شرط العدالة إن تعذر ولم يكن له بديل سقط التقليد للحي ونحوها سائر الشروط ، وإن كان له بديل إنتقل الى بديله ، والبديل لكل هذه الشروط هو المجتهد الميت لأنه بديل عن جميع هذه الشروط عند تعذر واحد منها للحي ، فهو في الحقيقة تعذّر لوجود الحي ، فان لم تقبل بهذا الكلام فعليك أن تقتنع بان هناك فرقاً بين شرط الحياة وسائر الشروط فشرط الحياة ليس معتبراً عند الكل بل فيه خلاف كما عرفتم فيكون الأمر فيه سهلاً فتخلّفه ليس كتخلّف الباقي فالقول بعدم اعتباره ليس خروجاً عن ربقة الفقهاء، وسائر الشروط معتبرة عند الكل بلا خلاف فالخروج عنها خروج عن ربقة الفقهاء.
وأما تصريحه بالمنع من التقليد الابتدئي مطلقاً في كتاب (الصراط القويم) فهو ليس حجة ، لأن هذا الكتاب إنما كان متقدما لأول مرجعيته وهو رسالة لجده لأمه كما يصرّح هو بنفسه (قدس) في ديباجة الصراط ، ومع وجود كتابه الفتوائي (منهج الصالحين) الذي أعدّه للعباد يسقط كل الإعتبار للكتب الفتوائية التي كانت قبله ، بل وينسخها ، وهذا واضح كالشمس في رائعة النهار ، بل كالنار على المنار ، فتأمل جيداً فيما قلناه لأنه دقيق وبالاتباع حقيق .
فان قلت : إذا كان (قدس سره) يرى أنه هو الأعلم وقد أفتى بشرطية الحياة للمبتدئ ، كيف يأتي من بعده ويقول بالجواز؟ وهذا يلزم منه : إما ان يكون الآتي أعلم منه أو أقل ، فان كان أعلم فكيف يجيز تقليد من هو ليس بأعلم منه؟ وإن كان أقل منه فكيف يُقدَّم قوله على قول الأعلم؟
قلنا : أما إذا كان أعلم منه فلا محذور أبداً من أن يجوّزَ تقليده (قدس سره) إبتداءاً أو بقاءً ، لأنه حينئذ يعتبر هذا إفتاءٌ منه بجواز التقليد له والرجوع اليه هو في المسائل المستحدثة ، حاله حال الفتاوى الاُخر، حتى إذا كان يشترط تقليد الأعلم فتكون فتواه هذه خارجة عن شمول العام لها ، والذي فتش في ذرات تراب الفقاهة يجد هذا واضحاً .
وأما إذا كان أقل منه ، فلا محذور أيضاً ، لأنه بحسب الفرض مجتهد، ووصل إجتهاده الى هذا من فضاكنه ليس بأعلم ، فهو أيضاً إفتاءٌ بدليلٍ وحجة ، وقد أفتى بحسب ذلك الدليل بجواز تقليده (قدس سره) ولا سيما إذا كان لا يرى وجوب تقليد الأعلم .
أضف الى ذلك : إن ذلك الأمر الذي أفتى به (قدس سره) بعدم الجواز وأن الحياة شرط في التقليد الابتدائي هو أمر يخصه هو في حياته فقط ، ولا علاقة لغيره به من الفقهاء البتة وغير ملزمين به وإلاّ لم يكونوا فقهاء ... أرأيت لو أن فقيهاً ثبت أنه الأعلم وقال بأنه لا يجوز تقليد الميت إبتداءاً ومات ، فهل للسيد الشهيد أن يمنع من تقليده إبتداءاً ويقول بأنه حَكَمَ على نفسه بعدم تقليده فأنا مُلزم باتباع رأيه؟ كيف ؟ وقد أفتى هو بجواز الرجوع الى الفقهاء السابقين في حال تعذّر الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء مع أنهم يقولون بعدم جواز التقليد الابتدائي ... أرأيت لو قلتَ لشخصٍ : أنا لا أقبل أن تمدحني أمام أحد في حياتي وبعد موتي ، فلو مدحك أمام الغير ، هل يوجد عاقل يقول بأن هذا المدح باطل ومعاقب عليه مع ما عليه من هذه المحبوبية ؟ فلا يمكن ذلك لأن ذلك الشرط يخصه هو فقط وليس مُلزِماً لغيره ، وهل هذا إلاّ خروج عن ربقة العلماء والجلوس في خانة الجهلاء!! وهل هذا إلاّ كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً!! .
تنبيـه : ما معنى قوله (قدس سره) إستمروا على صلاة الجمعة حتى وإن مات محمد الصدر؟ هل يعني الحاضرين والمخاطبين فقط أم يعم من يوجد في المستقبل ؟ ومن الواضح جداً أنه يعم الموجودين ومن سيوجد كما قررناه في الاصول .
فان قلتَ : هذا من باب الوصية وليس من باب تقليده وهو قد مات .
قلتُ : من فضاكنها تترتب عليها احكام شرعية تحتاج الى تقليد مجتهد، وهي إجزاء صلاة الجمعة عن الظهر ووجوب حضورها وسائر ما يترتب على صلاة الجمعة من واجبات ومستحبات ومكروهات ، ومن المعلوم أن الذي يوصي بها على هذا الشكل فهو يريدها على ما يراه هو لا على ما يراه غيره ، وهل هذا الاّ التقليد بعينه له (قدس سره) بعد مماته ؟ .
وماذا يعني بوصيته وبقوله (يجب أن يبقى البراني مفتوحاً بعد موتي)، فهل يُعقل أنه مفتوح لغرض الاسم والرسم ؟ أو أنه يبقى مفتوحاً حقاً وحقيقة؟ والصحيح هو الثاني ، لأن الغاية من فتح أبواب العلماء هي أخذ الأحكام الشرعية لا غيرها ، فاذا مات هو (قدس سره) فما معنى الرجوع الى البراني ؟ وليس هناك جواب واضح إلاّ لأنه يعتقد ان الرجوع الى أحكامه سارية المفعول الى مجيئ من هو أعلم منه أو مساوٍ له وهو شامل لمن كان موجوداً ولمن سيوجد ، بل ربما كان يظن ان الرجوع اليه واجب حتى بعد مماته ، وذلك لما سوف نقوله في التنويه القادم ، وأظن أن النتيجة واضحة لمن أزاح من بحر عقله ترسبات الزبد .
· تنويـه وتذكير وإلفات
إن السبب الاجتماعي والسياسي المهم جداً للقائلين بحرمة التقليد الابتدائي - بغض النظر عن السبب الشرعي - يكمن في أن المصلحة الرئيسية للمذهب الشيعي الامامي هو بالالتفاف حول زعمائهم وقادتهم المتمثلين بالمراجع والفقهاء ليقفوا في وجه الطوارئ ، وهذا يتم بشكل رئيسي بتقليد الحي لما هو المعروف من التلازم بين التقليد وبين الانقياد له في أذهان كثير من الناس ، فلو أجازوا التقليد الابتدائي صعب على الفقهاء تجميع الناس فيما لو عرض عارض على المذهب ، فتتهرب الناس بدعوى أنهم يقلدون شخصاً ليس من الموجودين الآن ، فلإغلاق هذا العذر تماماً أمامهم دأبوا الى تحريم التقليد الابتدائي .
ولكننا نقول : إن هذا أمر استحساني وليس حجة شرعية ، من فضاكنه رائع جداً ، ومع ذلك فانه قد يكون الأمر بالعكس تماماً ، فتكون المصلحة العظمى للمذهب في التقليد الابتدائي ، وذلك لو ظهر مرجع حركي يدعو الى التغيير في الواقع الراهن سواء أكان تغييراً سياسياً أم ثقافياً أم اجتماعياً وتعلقت به أفئدة الناس وأصبح له سطوة على النفوس ، وبث في نفوسهم روح التحرر وحب الجهاد ومعنى التكامل الاخلاقي والرغبة في الوصول الى المراتب العالية من الأمر بالمعروف، حتى أصبحوا يتفاخرون بالانتماء اليه وبتقليده ، ويعتبرونه سبباً لهدايتهم بل سبب لهداية المجتمع ، أو الوقوف بوجه التحديات المعادية، وكان ما يصنعونه بسبب انتمائهم اليه في منتهى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاننا نرى أن هذا التقليد جائز له ابتداءاً بل ربما نوجب ذلك إذا إعتبرناه كمضاد حيوي من الانحراف وكتحصين للفرد من الكسل والميوعة ، وكان قد فرضه الواقع كحالة جهادية ، وذلك لأن الانتماء الايماني بحد ذاته يعتبر واعزاً ورادعاً عن العمل بالمنكرات ، كالاسم للرجل أو للمرأة المؤثر في سلوكهما كما هو واضح وكذلك البيئة وكذلك الزي الذي يلبسه الفرد .
وعليه فاننا نعتبر أن هذا التقليد كحافز ومشجّع لبقاء المجتمع في سلم الكمال ومحصّن له من الأمراض الأخلاقية ، وهو أقصى غاية للفقيه ، ولا سيما اذا كان المجتمع لا يستجيب إلاّ لهذا الأمر الذي خلقه ذلك المجتهد ولا يتفاعل إلاّ معه ، فاننا ينبغي لنا أن ننظر الى ذلك نظرة المتأمل ونُبقي على تقليده إبتداءاً واستمراراً ولو لفترة معينة حتى يأتي الوقت الملائم ونطمأن على المجتمع من الانحراف وبعد ذلك نفعل ما نشاء ، فهو كالسماد للزرع اليانع ، ونحاول إيجاد المخرج الفقهي لهذا التقليد في هذه المرحلة وهو موجود بحمد الله ، أو على أقل تقدير نجيز لهم العمل برسالته العملية في هذه الفترة المهمة ، ويعتبر هذا تقليد للحي في هذه المسألة ، وانحل الأمر بسهولة، فيجب أن يأخذ فقهائنا بنظر الأعتبار هذه الأمور مع هذه الظروف التي يمر بها المسلمون اليوم ، ولا سيما عندما نزرعها في الأجيال الفتية ، وما أريد أن أقوله : نحن اليوم بأمس الحاجة الى الفكر الشيعي الحقيقي الجهادي وليس الى ...!! وهذا أبين من الأمس بل أوضح من الشمس، فلينتبه الجميع .
النتيجة من ذلك كله : إن سيدنا الأستاذ الشهيد السعيد (أعلى الله مرتبته) لا يقتنع إطلاقاً بأدلة القائلين بحرمة التقليد الإبتدائي والتي كان أهمها أمور :
1- إجماع المتأخرين على الحرمة وهو قد رفضه في كل أبحاثه الشريفة إذ لا عبرة بإجماعات المتأخرين مع أن المسألة لم تُبحث عند القدماء فكيف يُستكشف الإجماع؟
2- وقياس الأولوية من أن المجتهد إذا عرض عليه الجنون لا يجوز تقليده بالإجماع فمن باب أولى الميت لأنه فقد الحياة والأهلية وقد رفضه (قدس سره) من أن هناك فرقاً واسعاً بين المجنون والميت لأن الموت عالم راقي والجنون عالم سافل ولا يصلح المجنون للمرجعية والتقليد لأنه هذا المنصب لا يليق بمن هذه صفته بينما الميت فان آراءه باقية محفوظة وقد ذهب الى عالم تكاملي أعلى .
3- ان الميت لا رأي له لأنه مرتبط بالحياة وهي قد زالت الحياة فلا يجري استصحاب الحياة ، وقد رفضه (قدس سره) من أن الرأي لا ارتباط له بالحياة بل هو مرتبط بالنفس وهي لا تموت غاية الأمر إنتقلت من عالم الى آخر وهو مسطور في الكتب أو في صدور الثقات .
من فضاكن الذي جعله يجعله شرطاً هو دليل واحد فارد عنده فقط تابع للذوق الفقهي والمسؤولية العامة وهو الذي نؤيده نحن أيضاً وهو أقوى دليل في المسألة وقد إستقصينا جميع أدلة القائلين والمجوّزين في كتابنا (كشف الأسرار) وهو كالآتي :
إن الأعلمية تتسع دائرتها كلما مرّ الزمان وتعددت السنين وذلك لإتساع دائرة البحث والتحقيق والتدقيق ، وإذا قلنا بجواز التقليد الإبتدائي يلزم منه محذور وهو حصر المرجعية في شخص واحد ميت وينتج منه غلق باب البحث العلمي والمنهجية التحقيقية ، وتتحول الحوزات العلمية الى دار للعجزة والكسالى ، ونحن الآن ومع حرمة التقليد الإبتدائي ونرى هذا العجز فكيف إذا قلنا بالجواز؟ ولذا جعله شرطاً
وأما الرأي العلمي الذي أستنتجه منه (قدس سره الشريف) وليس على نحو الإفتاء بل هو من باب الإستنتاج العلمي ، والذي أنا عليه الى يوم الممات هو كالآتي :
1 -يجوز تقليد المجتهد الميت العالم البارع الورع التقي إبتداءاً في جميع العبادات ، إلاّ إذا منع من تقليده جميع العلماء الأحياء بشكل صريح فلا يجوز تقليده حينئذ ، وإن سكتوا أو سكت بعضهم أو أجاز أحدهم ارتفع المنع ، وأما تقليده في المعاملات والأحكام فهو على إشكال مغلّظ والأحوط وجوباً المنع إلاّ إذا أجاز أحد العلماء الأحياء ذلك صريحاً.
2- لا يجوز تقليده في المسائل الجديدة المُستحدثة التي لم يُعطِ فيها رأيه سواء أتعلقت بالأمور الرئاسية أم غيرها ، ولا يجوز الاستدلال عليها بالظن من أقواله ، ولا يجوز العمل إلاّ برسالته العملية فقط .
3- لا يجوز تقليده مطلقاً إذا ظهر من هو أعلى منه علماً وورعاً وتقوى ، أو مساو له وشاع خبره وانتشر .
4- يجوز أخذ الحكم الشرعي من أي عالم مجتهد حياً أكان أم ميتاً إذا لم يستطع الوصول الى رأي المجتهد الذي يجب أن يقلِّده سواءٌ أكان في ذلك قاصراً أم مُقصِّراً وفي كل الأحوال والأزمان.
فالذي أراه انا شخصياً وبعين اليقين وفي هذا الظرف هو : جواز تقليد السيد الشهيد الصدر إبتداءاً مطلقاً لكل من بلغ ولم يستطع العثور على المجتهد الأعلم ، ولكل من كان في مرحلة الفحص ، من فضاكل من كان غير مقتنع بالموجودين ، وعليه العمل بمنهج الصالحين فقط والرجوع في المستحدثات الى أعلم الموجودين الى أن يحصل له الإطمئنان بوجود الأعلم فلابد من الرجوع اليه حينئذ ، ولذا فقد أجزنا التقليد الإبتدائي له (قدس سره) في هذا الزمان لكل أحد . وللمزيد من هذا البحث العميق راجع كتابنا الكبير (كشف الأسرار)
(فاضـل البديـري 19رجب1431هـ)