مسألة (15) : لا يجوز العدول من الحي الى الميّت سواءٌ أكان قد قلّده سابقاً أم لا ، كما لا يجوز العدول من الحي الى الحي ما لم تحصل بعض الإستثناءات.
فمنها : ما إذا صار الآخر أعلم ، ومنها : ما إذا خرج مقلّده عن العدالة ، ومنها : ما إذا تدنّى أحدهما في العلم كما لو أصبح شديد النسيان دون أن يتقدم الآخر علمياً ، ومنها : ما إذا كانا متساويين فتخيّر أحدهما فصار الآخر أعلم .
[b]الشـرح
هنا مبحثان في غاية الأهمية لابد من التعرض لهما بشيء من التفصيل :
المبحث الأول
جواز العدول من الحي الى الميت وعدمه
وهنا فرعان :
الفرع الأول : في من قلّد مجتهداً جامعاً للشرائط فمات فعدل الى الحي ، وبعد فترة إرتأى أن يرجع ويعدل الى ذلك الميّت الذي كان قد قلّده أولاً ، فالمشهور ذهب الى عدم الجواز ومنهم سيدنا الأستاذ الشهيد هنا وإستدلوا على ذلك بأمرين :
الأول : أنه بعد عدوله من الميت الى الحي فقد قطع علاقته بالميت ، وأصبحت الحجة في عنقه هي فقط فتاوى الحي ، وبهذا فقد إنسلخت الحجية عن أقوال وفتاوى الأول ، ورجوع الحجية الى ذلك الميّت تحتاج الى دليل وهو مفقود في المقام ، فالرجوع اليه رجوع بلا حجة لأنه سيكون من باب التقليد الإبتدائي المجمع على بطلانه ، فاذن هو داخل موضوعاً وحكماً في التقليد الإبتدائي فلا يصح العدول.
وفيـه : أولاً : ما قلناه سابقاً من ان سماحته (رضوان الله عليه) يرفض هذا الإجماع بتاتاً لأن رائحة المدركية تفوح منه أي أنه إجماع يُعلم مستند مجمعيه ، فاذا عُلم المستند لهم فالمناقشة تكون في هذا المستند ومن ثم لا يكون مُحرزاً لحكم معصومي واقعي أي يؤخذ من دون مناقشة كالإجماع التعبدي، مضافاً الى أنه إجماع للمتأخرين وإجماعات المتأخرين لا عبرة فيها مع عدم وجود بحث للمسألة عند القدماء .
ثانياً : عدم التسليم بأن العدول الى الميت هو من باب التقليد الإبتدائي فهو من موضوعاته ، بل الأمر بعكسه فهو ليس من موضوعاته لأن موضوع التقليد الإبتدائي منحصر في من لم يقلد ذلك المجتهد أصلاً حتى مات ، ومقامنا ليس منه لأنه كان على تقليده فهو خارج عن موضوع التقليد الإبتدائي ، وأما انه داخل في التقليد الإبتدائي حكماً فهو أول الكلام لأنه هو المطلوب إثباته فكيف يكون هو النتيجة؟
الدليل الثاني : إن هذا المقام هو من دوران الأمر بين التخيير والتعيين ولابد من الأخذ بالتعيين ، فالأمر يدور بين التقليد للحي المعدول اليه بعد الموت وبين التخير بين الرجوع الى الميت أو البقاء على الحي ، ولابد حينئذ من عدم العدول لأن تقليد الحي حجة على كل حال بينما التخيير ليس حجة على كل حال لإحتمال أن يكون العدول الى الميت ثانياً ليس بحجة .
وفيـه : أن سماحته (رضوان الله عليه) ينـزعج من هذا الدليل لأن مبناه الأصولي هو الرجوع الى هذا الأصل إذا لم يقم حجة على الطرفين أي على التعيين وعلى التخيير وهنا الحجة موجودة للتعيين قطعاً وهي العدول اليه وكذلك موجودة للتخيير وهو إستصحاب الحجية الثابتة لذلك الميت قبل موته والعدول الى غيره لا يقطعها ولا يمنعها ولا ينفيها، فعلى هذا يجوز العدول الى الميت ولا مانع منه ، وهذا هو الصحيح .
من فضاكن : الكلام وقع هل يجري الإستصحاب هنا أم لا يجري؟:
فنقول : هذا الإستصحاب هنا على رأي سماحته الشريفة هو من نوع الإستصحاب التعليقي ، وبما ان الحجية من الأحكام فالإستصحاب الحكمي لا يجري إلاّ بنجو الإستصحاب التنجيزي والسبب في ذلك هو أن هذا المجتهد كان تقليده قبل موته معلقاً على بعض الشروط ومنها حياته وليس مطلقاً أي ليس غير مشروط بشيء ولا معلق على شيء وبعد موته حصل إشتباه مفهومي بحصول تلك الحالة الطارئة وهي الموت والعدول الى غيره التي يشك معها في قاطعية ذلك العدول لإستمرار الجعل أي لإستمرار الحجية فلا تُستصحب الحجية حينئذ.
ولكننا يمكن لنا أن تكون هناك تعليقة على هذا كله: لأنه ربما تقول بأن سيدنا الشهيد (أعلى الله مقامه) أفتى هنا على غير ما اصّله في الأصول وكان عليه أن يُفتي بجواز العدول لا بحرمته لأنه أثبت وكذلك نحن تبعاً له أثبتنا أن الإستصحاب الحكمي لا يكون إلاّ تنجيزياً وهو بريئ تماماً من شوب التعليقية والإشتراطية ، لأن الإستصحاب إنما يكون تعليقياً إذا كان المتيقن سابقاً في فرض ثبوته تعليقياً إشتراطياً ، من فضاكن الأمر هنا ليس كذلك لأن تقليد ذلك المجتهد كان حجة مطلقاً جزماً وكان ثبوت الحكم بتقليده تنجيزياً بالجزم ومن دون أي تعليق وإشتراط شيء ما دامت الشروط متوفرة فاذن هو ليس معلقاً على الشروط لأن الشروط حصلت ثم جاز تقليده، وبعد الموت والعدول نشك في صدق مفهوم التقليد عليه او مفهوم عدم التقليد، فالمشكوك لاحقاً في ظرف الثبوت سابقاً كان ثبوته تنجيزياً ، وبعد الموت أيضاً تنجيزي .
ولكن الصحيح ما قاله هنا (رضوان الله عليه) لأن هذا كله بناء على مبناه الأصولي من عدم جريان الإستصحاب في الأمور التعليقية ، من فضاكننا إذا قلنا بجريان الإستصحاب في الأمور التعليقية فسيكون لنا كلام آخر وربما القول بجواز العدول ولا مانع منه كما هو غير بعيد.
وقد أكدنا إن الضابطة الفارقة بين الإستصحاب التنجيزي والإستصحاب التعليقي هي ما كان الثبوت في المستصحب في ظرف التيقن به سابقاً تنجيزياً فهو استصحاب تنجيزي ، وإذا كان الثبوت في المستصحب في ظرف التيقن السابق تعليقياً فهو إستصحاب تعليقي ، وهنا الحجية ثبتت للمجتهد في حال حياته ثبوتاً تنجيزياً لا تقدير فيها ولا تعليق ولا أي إشتراط بل على نحو الحالة الناجزة ، وفرق هائل بين ثبوت الحجية للمجتهد وبين الحرمة للعصير العنبي لأن الحرمة تثبت له على تقدير غليانه وليس على كل حال فهي حرمة مقدرة .
وهذا بحث أصولي في غاية الأهمية ، وهو من أهم ما جاءت به المدرسة الصدرية على يد سيدنا الشهيد (أعلى الله مقام) وقد شيّده في مبحث الطهارة ، ونحن قد شيّدناه وألبسناه ثوباً في غاية الروعة وقد تعرضنا له في شرحنا الكببير بالتفصيل.
الفرع الثاني : من لم يقلّد الحي الجامع للشرائط حتى مات فقلّد الحي الجامع للشرائط ، ثم بدا له أن يعدل الى ذلك الميت الذي لم يكن قد قلّده سابقاً ، فلا ريب في هذه الحالة سيكون من التقليد الإبتدائي والذي يقول ببطلانه فيحكم ببطلانه هنا قطعاً، وهو تقليد فاقد للحجية .
المبحث الثاني
العدول من الحي الى الحي
مورد هذه المسألة هو صورة الإختلاف في الفتوى وعدم كون فتوى المعدول اليه موافقة للإحتياط ومع التساوي في الأعلمية ، إذا لو لم يكن هناك إختلاف بل كان توافقاً في الفتوى لا مانع من الأخذ من أيهما شاء ، وإذا كانت فتوى المعدول اليه أوفق بالإحتياط أيضاً لا مانع من الأخذ بقوله ، وإذا كان أحدهما أعلم فلا يجوز العدول منه الى غير الأعلم ، والدليل على هذا المنع :
أولاً : الإجماع الذي إدّعاه بعض المتأخرين ، وقلنا بأن هذا الإجماع ليس بحجة لأنه من الإجماعات المنقولة المدركية فلا تعبدية فيه فلا كاشفية فيه عن الرأي المعصومي لا بالكشف الجزمي ولا بالكشف الإطمئناني، فهو ساقط عن الإعتبار .
ثانياً : أصالة عدم الحجية ، لأننا نشك هل هذا العدول من دون مبرر حجة أم لا؟ فنستصحب عدم الحجية إذ الأصل عدم حجية قول كل أحد إلاّ ما ثبت بالدليل ومثل هذا العدول لم تثبت حجيته .
وفيـه : إن الحجية مُحرزة والدليل عليها موجود وهو التباني العقلائي الذي لا زال مستمراً على رجوع الجاهل الى العالم مطلقاً ولا يمانعون عن الرجوع الى خبير معين مخالف في رأيه الى خبير آخر مع عدم أعلميّته منه أي أنه لم يعلم منه شيء لفترة من الزمن ثم يرجعون الى خبير آخر ، فالتخيير في الرجوع الى الخبراء الذين لا أعلمية بينهم ثابت في لوح التباني العقلائي العام ، ولم يوجد من الشارع ما يردع عن هذه الطريقة فليس إلاّ الإنفاذ والتوافق معهم والقبول بطريقتهم .
مضافاً الى التمسك بإطلاق الأدلة اللفظية من الكتاب (كآيتي النفر وسؤال أهل الذكر) والسنة (كالروايات التي تُرجع فيها العوام الى الأصحاب الفقهاء) .
من فضاكن سيدنا الأستاذ الشهيد (رضوان الله عليه) لم يعتنِِ بهذه الأدلة ، لأنه بناءً على ما هو الصحيح من إن الإطلاقات لا يمكن الإعتماد عليها لأنها متعارضة لأجل التعارض بين الحكايتين ففتوى الأول تختلف عن فتوى الثاني هذا أولاً.
وثانياً : إنتفاء الحجية عن المعدول اليه لأن موضوع التخيير بين الفتوتين هو التحيّر بينهما وعدم العثور على الحجة ، فاذا أخذ المكلف بقول أحدهما قامت الحجة عنده فانتفى التخيير لإنتفاء موضوعه، فالعدول يكون من دون حجة فيسقط عن الإعتبار.
الموارد التي يجوز فيها العدول:
نعم هناك بعض المواضع يجوز فيها العدول من الحي الى الحي ، وقد ذكرها سماحته كاملة ، وهي :
1- ما إذا صار الآخر أعلم : لأن حجية الفتوى في حقه هي فتوى الأعلم ومع معرفته يجب العدول اليه تحصيلاً للمؤمّن العقلي القاضي بوجوب الخروج عن عهدة تكاليف المولى المعلومة .
2- ما إذا خرج مقلّده عن العدالة : لأن العدالة شرط في صحة التقليد ، ومع إنتفاء هذا الشرط سقط المشروط وهو التقليد ، فلابد له من تحصيل الحجة على أعماله وذلك لا يكون إلاّ بتقليد الجامع للشرائط فيجب العدول اليه .
3- ما إذا تدنّى أحدهما في العلم كما لو أصبح شديد النسيان دون أن يتقدم الآخر علمياً : هذا فيما إذا كان متساويين في الأعلمية ، من فضاكن الذي يقلّده قد تراجع عن علميته كعروض وطرو حاللات تقلل من علميته كزيادة نسيانه أو كثر نومه وتعب فكره أو المرض أنهكه، والآخر لم يتقدم علمياً إلاّ أنه بقي محافظاً على مقومات علميته ، ففي هذه الحالة فد إختل شرط الأعلمية في من يقلّده فيجب العدول الى الآخر .
4- ما إذا كانا متساويين فتخيّر أحدهما فصار الآخر أعلم : قلنا في مسألة (9) أنه في حال تساوي المجتهدين في جامعيتهما لشرائط الإفتاء يتخير المكلف بتقليد أيهما شاء ، فاختار أحدهما ، ثم بعد فترة صار الآخر الذي لم يختره أعلم من الذي إختاره ، فعلى القول بوجوب تقليد الأعلم كما هو الصحيح يجب العدول الى الآخر لتحقق الشروط كاملة .
تنبيـه مهم جداً : نحن عندنا تحقيق في هذه المسألة كاملة لأن الصحيح في الذي يجول في نظرنا وعلى مبنى سيدنا الشهيد (أعلى الله مقامه) إن العدول يجوز من الحي الى الميت الذي قلّده أولاً وكذلك من الحي الى الحي مع التساوي في الأعلمية أو عدم معرفتها ، لأن هذا القول منه هنا بعدم الجواز كان على المبنى الأول له (رضوان الله عليه) وهو : إن كل الأمارت ومنها فتوى المجتهد مجعولة على نحو الطريقية الصرفة للواقع والإرائية المحضة له فاذا أخد بأحد الأمارتين لا يحق له أخذ الأمارة الثانية لأن المطلوب واحد فارد وهو أخذ طريق واحد فلا يجوز التعدد في الفتاوى لأنه سلوك طريقين مختلفين فيتعارضان لأن الفتوى الأولى كاسرة لقرينتها الثانية ومع التعارض يتسقطان فأفتى بالحرمة وهذا قول المشهور، ولكنه عدل عن هذا المبنى أخيراً وإختار مبنى آخر أقوى من هذا بل في غاية الروعة والمتانة وقد شيّدناه في كل مباحثنا وأنا سمعته منه شخصياً وهو ما فهمته منه بما حاصله : إنه ليست كل الأمارات مجعولة على نحو الطريقية الصرفة للواقع وبما هي ، بل بعضها مجعولة على نحو الطريقية للواقع بما هي تسهيلية أي بنحو التسهيل والتيسير والتخفيف على المكلف ومنها فتوى المجتهد أي أن فيها رائحة السببية في سلوك هذه الفتوى للمصلحة التي يُتدارك فيها عن مصلحة الواقع الفائتة من فضاكنها ليست السببية الباطلة ، لأن المولى يعلم باختلاف فتاوى المجتهدين والتباس الأمر على أكثر المكلفين فيلزم العسر والحرج ، وعلى هذا فان المولى قد عدّد في مطلوبه ، ومع هذه التعددية في المطلوب لم يبقَ هناك مطلوب واحد وهو خصوص فتوى من قلّده حتى يلتزم بها ، فليس الفتوى الأولى كاسرة ومعارضة للفتوى الثانية ، فلا مانع من أخذ طريقين مختلفين إذا كان في أحدهما تسهيلاً على المكلف ، وأعتقد أنه لو كُتبت له الحياة ربما غيّر هذا القول وأفتى بالجواز في كلتا الحالتين .
أما الأولى وهي العدول الى الميت ثانياً بعد أن قلّده أولاً فلِما بنى عليه أخيراً من أن الإستصحاب يجري في المقام ولا يكون إلاّ تنجيزياً كما أوضحه في مبحث الطهارة، وأما الثانية وهي العدول الى الحي المساوي فلِما قلناه أعلاه ، فالتفت جيداً فان هذا في غاية الأهمية ، والذي يعرف مباني الأعلم ويحيط بكنهها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وقد أوضحت هذه المسألة كاملة في شرحنا الكبير ، وعلى كل حال فان المكلف مُلزم بأخذ ما موجود هنا في منهج الصالحين لأنه قد يكون له رأي آخر لم نطّلع عليه وأصرّ فيه هنا تبعاً للمشهور بحرمة العدول في كلا الحالين ، وإنما هي مناقشة علمية ، ولا يأخذ بهذه المناقشات لأنها لتبيين المشكلات وليست للإستفتاءات ، فافهم واستقم وابتعد عن الغفلات. (فاضـل البديـري 17شعبان1431هـ)[/b]