مسألة (6) فرع (أ) : يُشترط في من تقلَّده ما يلي :
أولاً : الإسلام ، ثانياً : الإيمان ، ثالثاً : العدالة ، رابعاً : الذكورة .
الشرح
في هذه المسألة مباحث مهمة نستعرضها بالتفصيل وهي مباحث متعلقة في شروط من كان يُرجع اليه في الفتوى وقبل بيان هذه الشروط شرطاً شرطاً وبيان مدرك ودليل كل واحد منها ، لابد أن نعرف سبب تعبير سيدنا الأستاذ الأعظم (أنار الله برهانه) عندما قال (يُشترط في من تقلَّده) بدلاً من قول المشهور جداً (يشترط في المجتهد أمور) ، فنقول :
إن السبب في هذا العدول الى هذا التعبير مُقنع ومتين جداً ، لأن هذه الشروط التي سنذكرها هي شروط للمرجعية العليا وليست شروطاً لأصل الإجتهاد ، لأنه من الواضح جداً إن فاقد العدالة يجوز له العمل بفتاوى نفسه إذا كان مجتهداً من فضاكنه لا تصح مرجعيته للغير ، وهكذا في بعض الشروط الأخرى .
والآن لنبدأ ببيان هذه الشروط واحداً واحداً وأدلتها وسيطول بنا الكلام بعض الشيء لأهمية الموضوع :
أولاً : الإسلام
الإجتهاد علم نظري كسبي وقد يصل اليه الكافر واي أحد كان لأن القدرة على الشيء أمر تكويني غير خاضع للشروط الإعتبارية ، فالإسلام ليس شرطاً في قدرة الشخص على الإجتهاد ، فقد يستطيع أن يجد ويجتهد في تحصيل الأحكام وإستنباطها ويكون مجتهداً ، من فضاكن لا عبرة باجتهاده إطلاقاً .
وذلك لأن تبيين الأحكام الشرعية هي الدين بعينه ، فاذا كان المفتي كافراً كيف يُؤمَن منه على حفظ الدين؟ وكيف يُركن اليه ؟ لأنه لا يعتقد بشريعتنا وديننا ، فلايسوغ الإجتهاد إلاّ لمن كان يؤمن بديننا وما جاء فيه ويعتقد بروح التشريع حقاً وحقيقةً ، وأما من كان لا يؤمن بديننا لن يصل الى حقيقة الأحكام على الوجة الحقيقي ، لأنه لا يستند الى أي أساس إسلامي ، هذا مضافاً الى أن الإجتهاد عبادة ، فلا تقبل من الكافر .
ثانياً : الإيمان
ونعني به أن يكون المرجع إمامياً إثنى عشرياً فقط ، لأن هذا منصب المرجعية هو مقام ورثة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ، ومن المقطوع به أن الشارع لا يرضى أن يتصدى له من كان متلبساً بالظلم ، وعدم الإستقامة العقيدية من أصدق مصاديق الظلم ، وقد دلّت على ذلك بعض الروايات المعتبرة نقتصر على أهم روايتين في هذا الباب :
أولاً : مكاتبة علي بن سويد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) فقد جاء في الجواب ما لفظه : (وأما ما ذكرتيا علي ممن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فانك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين ، الذين خانوا الله ورسوله ، وخانوا أماناتهم ، إنهم ائتمنوا على كتاب الله ، فحرّفوه وبدّلوه ، فعليهم لعنة الله ، ولعنة رسوله، ولعنة ملائكته ، ولعنة آبائي الكرام البررة ، ولعنتي ، ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة) ، وهو واضح على أن الأخذ عن غير الشيعي أخذ بغير حق ، لأنه حتى لو إستنبط الأحكام على طريقة فقه الإمامية فان إستنباطاته لا تكون مأمونة مقبولة وذلك لأنه لم يرتوى من كأس الولاية الأوفى ولم يشرب من رحيقها الأصفى ، وواضح إن من كانت هذه صفته كيف يكون قابلاً للإفاضات الإلهية القدسية؟
ثانياً : عن أحمد بن حاتم بن ماهويه ، قال : (كتبت إليه يعني : أبا الحسن الثالث الهادي (عليه السلام) أسأله : عمن آخذ معالم ديني ؟ وكتب أخوه أيضا بذلك ، فكتب إليهما : فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كل مُسنٍ في حبنا ، وكل كثير القِدم في أمرنا ، فانهما كافوكما إن شاء الله تعالى) ، وهي واضحة على أن كثرة السن معناها شدة الإلتصاق بهم (عليهم السلام) والمأنوسية الشديدة بأحكامهم ، وكذلك كثرة القِدم في أمرهم (عليهم السلام) تعطي الملازمة للأعلمية الناشيء من الإستئناس بمذاقهم ، وغير الشيعي لا يمكن أن تحصل له تلك المانوسية بأصولهم (عليهم السلام) ، وليس معنى كثرة السن هي السن الزمني لأنه أمر غير مقبول فقهياً ، هذا كله معتضداً بالإجماع المحقق .
ثالثاً : العدالة
عمدة الأدلة على إشتراطها هو الإجماع والإرتكاز المتشرعي القطعي وخبر الإحتجاج المروي في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لامر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه ، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم ، فان من ركب من القبايح والفواحش مراكب علماء العامة ، فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً ، ولا كرامة) ولسان هذا الخبر لسان الإحتراز عمّن لا يجوز تقليده لأن المتلبس بالفسق والإنحراف عن جادة الديانة لا يمكن أن يكون حافظاً لدينه ، فلسان هذا الخبر واضح في إشتراط العدالة .
فإن قلت : إن أدلة رجوع الجاهل الى العالم المطلقة تشمل ما نحن فيه فرجوع العامي الى العالم لا نشترط فيه العدالة كما في رجوع غير الخبير الى كل خبير الذي لا نشترط فيه العدالة .
قلت : هذا صحيح لأن السيرة العقلائية قامت على ذلك والشارع متحد المسلك والطريق معهم ، من فضاكن إنما يصح ذلك إذا لم يردع الشارع عن هذه الطريقة وقد ردع الشارع بردع صريح في باب التقليد بالرادع الصالح الواضح كما إطلعت عليه من الروايات ومن الإجماع ومن الإرتكاز المتشرعي القطعي الذي إن كشف عن شيء فانما يكشف عن حكم معصومي قطعي .
جوهر ثمين
وحيث وصل الأمر بنا الى هذا الأمر الهام جداً فقد كان سيدنا الأستاذ الأعظم (طيب الله تربته وأعلى الله مرتبته) يصرّ على تعميق هذه المعاني عند طلبة الحوزة العلمية ، وها أنا اذكر شيئاً من هذا تمجيداً لفقاهته الشريفة ولعلو مكانته المقدسة ، وقد ذكرت ذلك في كتابنا الكبير (ضوابط الصناعة الفقهية) فأقول :
إن المواصفات التي أعطاها الإمام (عليه السلام) للفقيه الذي يتصدى للنيابة عنه يجب أن تكون مرتبة وحاصلة بأجمعها ، وبهذا فانه يجب وجوباً كفائياً على كل من يستطيع الإتصاف بهذه المواصفات أن يتصف بها ويتحمل الأعباء ، لأنه لابد من رجل يقوم مقام الإمام في زمن الغَيبة فاذا لم تتوفر هذه المواصفات فهذا يعني عدم وجود من يقوم مقامه وحينئذ بقي المجتمع من دون قيادة دينية شرعية فيعاقب الكل.
أما الصفة الأولى : أي صفة الفقاهة فهي أن يعرف أحكام الدين ، وهذا لا يتيسر إلاّ لمجتهد فقيه ممارس ، وهذه الصفة هي أسهل الصفات لأنها إكتسابية بسيطة ، ولا تتوقف إلاّ على شحذ الهمة والرغبة والشعور بالمسؤولية والطموح والمصلحة الشخصية.
وأما الصفة الثانية : فهي أن يكون صائنا لنفسه من الزلل والخلل ، ويحاول أن يعصم نفسه من الرذائل الخلقية ويجنبها الذنوب الشرعية ، وأن يجعلها من أحسن النفوس تكاملاً وتلائماً ، فلا يُرى على معصية أبداً ولا يُرى على مقربة من هدم المروءة والعزة ، وأن يتجنب الذل والمسكنة ، وهذه الصفة أصعب تطبيقاً ، لأنها متوقفة على إجتياز مرحلة الأخلاق العالية.
وأما الصفة الثالثة : : فهي أن يكون حافظاً لدينه أي يجعل الدين وأحكامه فوق كل شيء ، ويضحّي من أجل رفعته وعزته وأن يزيل جميع العقبات التي تحول دون نشره وسلطنته ، ويعلو ولا يُعلى عليه، وهي أصعب من الأولى والثانية لأن فيها وجوب التخلي عن بعض الصفات النفسية الملاصقة ، ولا يصل الى حقيقتها حتى يجتاز تلك الصفتين .
وأما الصفة الرابعة : فهي أن يكون مخالفاً لهواه ، أي يكون حكيماً في تصرفاته حليماً في توجهاته ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا في قول الحق خشية أحد ، بحيث يكون رجل المرحلة حقاً وحقيقة ، ولا تلعب به الأهواء المذهبية أو الإنفعالية ، وأن ينظر الى الناس كلهم عياله وكلهم أبناؤه ، بحيث يكون هو الأب الروحي ، وهذه الصفة أصعب من قبلها بكثير ، لأن بها يكون الإنسان إنساناً كما يريده ربه ، وهي لا تتأتى إلاّ بعد إكمال الصفات الثلاث السابقة عليها بجدارة .
وأما الصفة الخامسة : فهي أن يكون طائعاً لأمر مولاه ، أي يكون عبداً لله وحده وليس عبداً لغيره ، يشعر ويعيش تلك العبودية بأبهى صورها وأجلاها وأحلاها ، يقيم حدود الله ولا يتعداها ، يتحلى بمنتهى مواصفات العبد الذليل أمام مولاه ، لا ينسى ذكر الله تبارك وتعالى طرفة عين ، فيكون مَثَلَ الله في الكون وخليفته على خلقه وأرضه ، وهذه الصفة هي أصعب الصفات لأنها لا تكون إلاّ بعد إتمام تلك المراحل والتحلي بتلك الصفات ، وهي أرقى ما يصل اليه الإنسان في الكون وبها يكون الخليفة الحقيقي لله تبارك وتعالى والنائب الفعلي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، وهذا وحده يستحق أن يكون مرجعاً وموجهاً وقدوة وقائداً وأباً ورمزاً وشافعاً.
فمن كملت فيه تلك المواصفات فأهلاً وسهلاً ونحن له طائعون، وإلاّ فالويل والثبور له ولمن تبعه من دون فحص وتثبت ، وإنما أنا مذكّر من فضاكل قوم هاد ، والحمد لله رب العالمين .
رابعاً : الذكورة
وتدل على هذا الشرط أمور :
1_ قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) فتقليد الرجل للمرأة يستلزم منه أن تكون المرأة قيّمة عليه ، وفي هذه الآية أصرّ سيدنا الأستاذ الأعظم (رضوان الله عليه) على أنها واردة على نحو الإطلاق لأنها واردة في مقام بيان عدم مشروعية قوامية المرأة على الرجل مطلقاً وهي غير قابلة للتخصيص أبداً قلا تقبل مشروعية القوامية في أي مورد من الموارد .
2ـ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال ، قال : (قال ابو عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، من فضاكن انظروا إلى رجل منكم ، يعلم شيئا من قضايانا ، فأجعلوه بينكم ، فأني قد جعلته قاضيا ، فتحاكموا اليه)
وقرّب ذلك سيدنا الأستاذ الأعظم (أعلى الله مقاماته الشريفة) من أن قيد الرجولية قيد إحترازي لم يأتي بنحو الغالبية كما عليه المشهور أي بمعنى أن الغالب أن يكون الحاكم هو الرجل ومفهوم الوصف لا مفهوم له ، بل هو إحترازي عن غيره ، وغيره هو النساء ، لأن العرف المحاوري يحمل القيد في مثل هذا التحاور على الإحترازية إلاّ إذا دلّ دليل قطعي على الغالبية وهو هنا مفقود فتعيّن الإحتراز ، وعلى مبناه الشريف من أن مفهوم الوصف له مفهوم إذا كان على نحو الإحتراز ، والذي يؤكد مقالته هذه (زيد في شرفه) إن الإرتكاز المتشرعي القطعي قائم بعدم لياقة المرأة لمقام المرجعية الذي هو مقام ورثة الأنبياء والأوصياء لما روي من الفريقين (ليس على النساء جمعة ولا جماعة ...ولا تولي القضاء ..الخ) فاذا لم يرض الشارع الأقدس بتولى إمامة الجمعة والجماعة فهل يقول عاقل إن الشارع يرضى بادارة أمور الناس العامة .
فان قلت : إن الرجوع الى الخبير عام يشمل الجنسين بلا فارق في البين .
قلت : هذا صحيح لو لم يردع الشارع عن ذلك من فضاكنه ردع بردع صريح قابل للرادعية بما أوضحناه أعلاه ، وعليه فلا تُسمع وسوسة من قال بجواز تصديها لهذه الأمور لأنه لم يُحط بمذاق الشارع الأقدس ، نعم يحق لها أن تعمل برأيها إذا وصلت الى درجة الإجتهاد. (فاضـل البديـري 17 رجب 1431)