مسألة (3) : الأحوط ترك طريق الإحتياط في عموم المسائل والإختصاص بطريقي الإجتهاد والتقليد ، لكن الإحتياط في بعض المسائل جائز سواء أقتضى التكرار أم لا ، لكن يلزم المكلف معرفة ما هو الأحوط شرعاً .
الشرح
لا ريب في أن هذا الإحتياط هو إحتياط وجوبي ، وهذا هو المشهور ولا سيما بين أصحابنا المتقدمين وقد خالفه أكثر المتأخرين والمعاصرين وأقصى ما استدل عليه المشهور بالآتي : إن ظاهر ما دلّ من الآيات والروايات على وجوب تعلّم الأحكام الشرعية هو أن يكون ذلك بطريقين فقط إما بنحو الإجتهاد أو بنحو التقليد ، فمع التمكن منهما لا يجوز الإنتقال الى البديل أي الى الإحتياط مضافاً الى إجماع السيد المرتضى على حرمة العمل بالإحتياط ، من فضاكن هذا الدليل لا يلائم مبنى سيدنا الأستاذ الشهيد (أعلى الله مقامه السديد) لأنه لا يرى أن وجوب التعلّم واجباً نفسياً بل يراه واجباً غيرياً ، وعليه إذا كان العبد يصل الى تكاليف مولاه عن طريق الإحتياط وليس فيه حزازة من المولى فلا مانع منه ولا سيما إذا كان فيه غرض عقلائي ، وليس واجباً عليه التعلّم ما دام أن هناك طريقاً آخر أي طريق الإحتياط ، ولا يرى إجماعات الآحاد حجة كإجماع المرتضى .
والدليل الصحيح في نظره الشريف هو : إنه قد ثبت في دليل الإنسداد بطلانُ الإحتياط ، لأن أهم مقدمة من مقدمات دليل الإنسداد هي : إن أي طريق يوصل الى الحرج والمشقة فهو منفي من اللوح التشريعي بقاعدة نفي الحرج والمشقة ، وأن دعوى وجود إحتياط حقيقي يكون مخرجاً للعبد من عهدة التكليف من دون مشقة وحرج فهي أشبه بالطريق الذي لا بيّنة عليه بل يكذبها الوجدان لأنه لا يوجد طريق إحتياطي إلاّ وفيه حرج ومشقة ، وعليه: فما دام الإحتياط الحقيقي قد طرأ عليه صفة الحرجية والعسرية الموجبة لطرو الحزازة والكراهة له من فبل المولى فلا يمكن للمولى أن ينصبه كطريق للوصول الى تكاليفه مع وجود الطريق التسهيلي المنصوب من قبله أعني به الإجتهاد أو التقليد ، فانحصر المبرّئ والمؤمّن للعبد في الإجتهاد أو التقليد ، فالعقل إذن لا يرى أي مؤمّنيّة من مخالفة المولى في سلوك الإحتياط مع وجود غيره ، لأن العقل المذعن بمولوية المولى يحكم بلابدية سلوك الطريق المجزوم المبرئية والمؤمّنيّة الموصل الى تحقيق تكاليف المولى أعني الإجتهاد أو التقليد ، فيبقى الإحتياط محكوماً بحكم العقل بعدم الحجية ما لم يقم دليل قطعي على حجيته، وما هذا حاله كيف يكون دليلاً على أحكام المولى؟
نعم : في بعض المسائل الشرعية قام الدليل على حجية الإحتياط فنقول : إن كان المورد من الواجبات التوصلية التي لا تحتاج الى قصد القربة أو كان من موارد المعاملات التي ليس للشارع صيغة خاصة به فلا مانع من الإحتياط .
وإن كان المورد من العبادات فمرة لا يقطع العبدد بحرمته من فضاكنه محتمل الحرمة فلا مجال للإحتياط لوجود النهي الإحتمالي فهناك حزازة من المولى فالعقل لا يجيز الإقتحام كتردد الصلاة بين الصلاة مع لبس الحذاء وبين عدم لبسها .
ومرة يقطع بعدم حرمة الفعل على كل حال فلا مانع من الإحتياط حينئذ لأنه ليس فيه كراهة من المولى كالمردد بين صلاة القصر والتمام لأن العبد إذا أتى بأي واحدة منهما فليست حراماً قطعاً ، أو توضأ بماء مرتين ، مرة على أنه ماء مطلق ومرة على انه ماء مضاف فان الوضوء بالماء المضاف ليس محرماً غايته عدم صحة الصلاة ونحو هذه الأمور ولذا قال (أعلى الله مرتبته) : (لكن الإحتياط في بعض المسائل جائز سواء أقتضى التكرار أم لا) كالمصلي المتردد بين القصر والتمام أو المصلي المتردد في الصلاة في أثواب متعددة لا يعلم أيها الطاهر ، أو المتوضي بمياه متعددة لا يعلم أيها المطلق ، وقوله (سواء أقتضى التكرار أم لا) لأن المدار على مبناه الأصولي الشريف الذي هو أن الفعل العبادي هو واحد وليس مكرراً في الواقع لأن المدار على لحاظ الفعل العبادي بما هو وليس على نيته وما يدخل فيه، وعليه فلا إختلاف في حقيقة هذا الفعل لأن التكرار واقعاً ليس تكراراً للنية حتى تقول :
بأنه لو نوى أولاً وقال : (أصلي قصراً قربة الى الله) ثم قال مرة ثانية: (أصلي تماماً قربة الى الله) فأصبح هنا فعلان عباديان أحدهما باطل قطعاً ولا يُعلم من هو فلا يمكن التكرار .
وإنما هو بلحاظ الفعل العبادي لا بلحاظ تكرر النية كما هو مشهور القدماء فلا محذور حينئذ ، فلا يوجد إختلاف في حقيقة صلاة القصر عن صلاة التمام فكما أن صلاة القصر صلاة فكذلك صلاة التمام صلاة لأن اللحاظ هو بإعتبار الفعل الصلاتي وهو واحد.
وهذا ما استوعبناه من بحوثه الشريفة وهو في غاية الروعة والمتانة وتبنيناه في كل الأبحاث ، فهو كلام دقيق للغاية ومحكم حتى النهاية وينمّ عن الذوق الفقاهتي العظيم لمرتكزاته الفقهية (أعلى ألله منـزلته) ، (فاضـل البديـري 13رجب1431هـ) .