مسألة (29) : حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه حتى لمجتهد آخر حتى مع العلم لمخالفته للواقع إذا كان بنحو الولاية أو الحكم القضائي ، أما الفتوى فمنوطة بعدم العلم بمخالفة الواقع.
الشـرح
إذا حكم الحاكم الشرعي أي المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء بحكم معين فله ثلاثة أنحاء :
النحو الأول : أن يكون بنحو الولاية كأن يحكم بوجب الجهاد الهجومي أو يحكم بتحريم التعامل مع بعض الفئات أو يحكم بالتصرف في بعض أموال الناس أو يحكم بالطلاق وهكذا.
النحو الثاني : ان يكون بنحو الحكم القضائي كأن يحكم برد الوديعة الى ذلك الشخص أو يحكم بحجر أموال شخص معين لأداء الدين أو يحكم بالحد على شخص معين ، أو يحكم بفض نزاع بين طرفين كأن يحكم بأن الدار لفلان.
النحو الثالث : أن يكون بنحو الفتوى كان يحكم بحرمة حلق اللحية أو يحكم بوجوب التقصير للمسافر وهكذا .
فهنا مقامان
المقام الأول : في الحكم القضائي والحكم الولائي
فنقول : أما بالنسبة الى النحو الأول والثاني أي الحكم الولائي والحكم القضائي فلا يجوز نقضه مطلقاً حتى وإن كان مخالفاً للواقع على ما قاله (رضوان الله عليه) وهذا يحتاج مني الى بيان :
لأن العبارة هنا هكذا (حتى مع العلم لمخالفته للواقع) وليست عبارة (إلاّ مع العلم لمخالفته للواقع) ونحن بين أمرين إما أن نقول بأن العبارة ليست صحيحة فهناك خطأ مطبعي فأبدلت (إلاّ) بـ (حتى) وهذا هو إحتمال قد يقوى في النفس لأول وهلة لأنه هو المشهور جداً بين الأصحاب، لأنه كما ستعرف بعد قليل أن الحكم المخالف للواقع لا يجب تنفيذه بل يجب نقضه من الحاكم الآخر المطّلع على أحكام الكتاب والسنة الشريفة وبهذا يسهل الأمر جداً ولا يحتاج منّا الى توضيح .
وإما أن تبقى على ما هي عليه أي (حتى..) وأن هذا رأيه (رضوان الله عليه) وله مبناه الفقهي وأن كل النسخ الموجودة هي بهذا الشكل حتى التي في زمانه ، وفي هذا الحالة لابد من توجيه لها وبيان المبنى الأصولي والفقهي بحيث لا يتعارض مع الأصول والقواعد الشرعية.
فأقول : الذي يقصده (رضوان الله عليه) هنا أن الذي يحرم نقضه من قبل الحاكم الثاني مطلقاً وإن علم أن حكم الحاكم الأول مخالف للواقع هو الحكم المختص بحفظ النظام الإجتماعي العام الذي استنتجه ضمن مقدمات صحيحة أو حتى ضمن مقدمات خاطئة من فضاكن على الموازين الصحيحة كما في إختلاف المباني ، بغض النظر عن ترتيب آثار الواقع .
يعني : أن هناك جهتين لحكم الحاكم ، الأولى : حفظ النظام العام كفض الخصومة والنـزاعات وإصدار قوانين وأحكام ولائية لرفع الهرج والمرج ودفع الضرر عن المجتمع حتى لا يبقوا في الفوضى، والثانية : ترتيب آثار الواقع ، والذي يقصده (رضوان الله عليه) من هذه العبارة هي الجهة الأولى وهي الأحكام المتعلقة بحفظ النظام وذلك لأن حكم الحاكم بنفسه موضوع تام للحكم أي لحكم حرمة نقضه ورده لأن حكمه أخذ على نحو الموضوعية التامة لحل النـزاعات وفض الخصومات وإرساء دعائم الإصلاح في المجتمع فالحكم يدور مداره وجوداً وعدماً سواءٌ أكان موافقاً للواقع أم مخالفاً له ما دام أن الحاكم مستجمع لشرائط القضاء والإفتاء وكان على ضمن الموازين الصحيحة، ولم يؤخذ الحكم على نحو الأمارية كما هو حال الفتوى فلم يؤخذ على أنه طريق محض للواقع إن أصابه فبها ونعمت وإن أخطأ فلابد من الإعادة بل أُخذ على نحو الموضوعية التامة لفصل الخصومات والمنازعات وإصدار ما فيه نفع لنظام المجتمع كما قلنا والذي يرشدنا الى ذلك هو إطلاق الأدلة ولاسيما إطلاق مقبولة عمر بن حنظلة الآتية التي فيها (والراد عليه كالراد علينا...) بعد أن إعتبره الإمام (عليه السلام) نائباً عنه في حل الخصومات وأن يكون قاضياً لأننا لو قلنا بجواز نقضه إن علم أنه مخالف للواقع يلزم محذور منه وهو عدم لزوم أكثر الأحكام في الترافع وبقي الخصام الى آخر الزمن لأن كل من المترافعين يعلم بعدم صدق الآخر أو يعلم بعدم مطابقة بيّنته للواقع. وأما الجهة الثانية أعني بها ترتيب آثار الواقع فلا بد من العمل على وفق الواقع .
فلو حكم الحاكم بأن الدار لزيد فضاً للنـزاع وكان على ضمن الموازيين الصحيحة وقد علم الحاكم الثاني علم اليقين أن الدار لخالد فان الحاكم الثاني يجب عليه أن يوافق الحاكم الأول بأنه فض للنـزاع وانتهت الدعوى ولا يعيد الحكم ولا يعيد الدعوى ولا ينقضه مطلقاً أي سواءٌ أعلم مخالفته للواقع أم علم بالخطأ في طريقه ولكنه متيقن أنه مجتهد جامع للشرائط وذلك لما قلناه قبل قليل من أن الحكم الصادر منه ليس على نحو الأمارة المحضة أي ليس أنه كاشف عن الواقع وطريق اليه بل أن حكمه له تمام الموضوعية في حل النـزاعات واذا انحل النـزاع يعني حص الموضوع واذا وجد الموضوع تحقق الحكم حتماً ، وعند صدوره من الحاكم فالموضوع هو حكمه لا شيء آخر ، من فضاكنه يجب عليه أن يخالفه في ترتيب آثار الواقع ويقول له بأن الدار ليست لك وإنما لخالد ويجب أن تعمل بينك فيما بين الله تعالى لصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما قضى بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فانما قطعت له به قطعة من النار).
عود على بدء
وبعد إنتهى بنا الأمر الى هذا ، سأعود الآن وأبيّن الدليل لهذا الحكم على ما تقتضيه الأصول والضوابط الشرعية:
ولهذا الحكم ثلاثة أدلة :
الدليل الأول : هو الإجماع الذي إدعاه الأكثر من فضاكنه لا يمكن الإعتماد عليه لأنه إجماع مدركي لإحتمالية أن يكون مستند المجمعين هي مقبولة عمر بن حنظلة القادمة في الدليل الثاني ، ومع وجود الدليل لا يبقى مجال للإتكاء على مثل هذا الإجماع لأنه لا يكشف كشفاً جزمياً عن رأي المعصوم (عليه السلام) وبعبارة أخرى فهو غير صالح لٍلإستقلال باستنتاج حكم معصومي .
الدليل الثاني : التمسك بالسيرة العقلائية فإن المتتبع للتباني العقلائي ولسيرتهم يجد أنه سيرتهم مستمرة وقائمة على أن حكم الحاكم نافذ وماضي ، ومن المعلوم أن هذه السيرة يمكن أن تتسرى وتسري الى أحكام الشارع لأن لها مساس بالشارع وبالتالي يمكن للمتشرعة أن ينساقوا وراء قرائحهم العقلائية لأنهم في طليعة العقلاء فلابد للشارع اذا كان لا يريد أن ينساقوا وراء هذه الطريقة أن يردع عنها بردع صريح واصل ، وعدم العثور على مثل هذا الردع دليل على الإمضاء كما أوضحنا ذلك ، نعم : هناك حصل ردع من الشارع بدليل اعتبار بعض الصفات المعينة في الحاكم ، وليس الحكم الصادر من كل حاكم وكيف ما كان .
الدليل الثالث : هي ما جاء في رواية عمر بن حنظلة التي يقول فيها الإمام (عليه السلام) : (فاذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فانما إستخف بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حد الشرك بالله) وهذه الرواية صريحة فانها باطلاقها تدل على أنه لا يجوز نقض حكم الحاكم من كل أحد حتى وإن كان الناقض مجتهداً أو حاكماً آخر إذا كان ذلك الحكم منتسباً الى حكمهم (عليهم السلام) ومضافاً اليهم فتنفيذه لازم وردّه حرام .
والسبب في نافذية ذلك الحكم إنما هو لحل المنازعات والمشاجرات التي تحصل بين الناس فان الشارع الأقدس مثلما يرفع الخصومة الحاصلة فانه كذلك يدفع الخصومة الآتية المتوقعة ، فاذن هناك مراد مولوي منصب على كلا الحالتين ولهذا فان دائرة حكم الحاكم تتسع لما فيه التعرض لدفع الإختلال الذي يحصل في المجتمع ، ولذا قلنا أن الهلال يثبت بحكم الحاكم لأنه اذا رأى الهرج واختلال النظام الإجتماعي وحصول المفسدة جرّاء ذلك وبالتالي تسويد وجه الشريعة لابد أن يمنع من ذلك بتلك الصلاحية المعطاة له .
ولحكمه هنا ثلاث حالات :
أولاً : فاذا كان الحكم الصادر من الحاكم موافقاً للواقع أي كان مطابقاً للكتاب والسنة الشريفة وكان صدوراً صحيحاً أي على ضمن الموازيين الفقاهتية وذلك بصحة مقدمات الوصول فاننا نجزم بأن هذا الحكم منتسب اليهم (عليهم السلام) فيجب تنفيذه ويحرم رده من أي أحد.
ثانياً : اذا كان حكمه معلوم المخالفة للواقع أي كان مخالفاً للكتاب والسنة الشريفة وصدر على غير المعايير الفقاهتية وذلك بالتقصير في مقدماته فهو صدور لا ميزاني فلا يمكن أن يُنسب اليهم (عليهم السلام) وبالتالي يحرم تنفيذه ويجب ردّه بلا أدنى ريب لأنه مشمول بأنه حكم بغير ما أنزل الله فهو موصوف بالمبغوضية الشديدة الأكيدة ، ويفسق الحاكم بذلك لأنه أتى بالمبغوض المولوي.
ثالثاً : إذا كان الحكم لا تعلم موافقته للواقع أو مخالفته من فضاكنه قد صدر صدوراً على وفق المعايير الفقاهتية والأسباب العقلائية المتعارفة في الشرع الأقدس وذلك بصحة مقدماته أي لم يكمن هناك تقصير فيها كما هو الأعم الأغلب في حكم الحاكم فانه لأجل أنه صدور على وفق الموازيين الشرعية وعلى وفق أصولهم (عليهم السلام) التي أًصّلوها وأمرونا بالتفريع عليها فانه يعتبر إنتساب حقيقي اليهم (عليهم السلام) فيجب تنفيذه ويحرم رده.
وفي الحقيقة هنا فرعان :
1- إما أن يعلم أن المخالفة للواقع إنما جاءت نتيجة لعدم إعمال وتفعيل القواعد والأصول الفقاهتية أي كان هناك تقصير واضح في عملية إستخراج الحكم فهذا يجب رده لأن الحاكم به يعلم أنه مقصّر حتماً فالشارع الأقدس ينادي الحاكم الثاني برفضه لأنه لأنه على غير موازينه فينظر اليه أنه ليس حكماً شارعياً .
2- وإما أن يعلم أن المخالفة للواقع جاءت نتيجة قصور في الحاكم وليس تقصيراً في مقدمات استخراج الحكم كأن يكون قد نسي أو غفل أو أخطأ فانه في هذه الحالة لا حرج ولا ضير على الحاكم الأول لأنه غير ملتفت الى قصوره بل يعتبره أنه حكم منسوب اليهم (عليهم السلام)، من فضاكن الحاكم الثاني لأجل إلتفاتته الى قصورية الحاكم الأول والى غفلته فهذا أيضاً يجب ردّه ونقضه لوجود المسوّغ الشرعي والعقلائي لرده وهو إنكشاف الخطأ لديه لأنه لو التفت الحاكم الأول الى قصوره فانه سوف يمحيه من قاموس أحكامه ولا ينسبه اليهم (عليهم السلام) فموضوعية فالإنتساب الى حكمهم (عليهم السلام) غير منقح أبداً لحكم حرمة الرد ووجوب التنفيذ فتبقى حرمة التنفيذ ووجوب الرد من غير معارض في الساحة.
فالنتيجة : إذا كان الحاكم الثاني قد علم أن الحاكم الأول حكم وكان حكمه موافق للواقع فيحرم رده ونقضه ومخالفته، وإذا علم أن حكمه كان مخالفاً للواقع فيجب رده ونقضه ومخالفته ، وإن لم يعلم لا بالموافقة ولا بالمخالفة فانه يجب تنفيذه ويحرم مخالفته من الحاكم الثاني لوجود موضوعه حرمة الرد وهو الإنتساب اليهم (عليهم السلام) الذي كان على وفق الضوبط والأصول المقررة.
بقيت هناك صورة مهمة في المقام :
وهي فيما اذا لم يعلم الحاكم الثاني بمخالفة حكم الحاكم الأول للواقع يقيناً وانما يعلم تعبداً كقيام حجة معتبرة من إجماع أو شهرة أو خبر ثقة ونحوها من فضاكنه يحتمل الموافقة أيضاً ، ففي هذه الحالة لابد لنا من إتباع الحجة الأقوى ، فان كانت هناك حجة أقوى على خلاف هذا الحكم فيؤخذ بالحجة الأقوى ويجب نقض هذا الحكم ويجب رده كما إذا قام الإجماع التعبدي على حكم معين أو شهرة محققة معتبرة وحكم الحاكم على خلافها ولم نعلم أيهما الصحيحة ، فعندئذ لم يتنقح موضح الحكم أي لم يتنقح الإنتساب اليهم (عليهم السلام) لحكم حرمة رده ووجوب تنفيذه ، فاذن هو حكم صدر صدوراً على غير الطريقة الصحيحة في تنظر المتشرعة وعلى غير المقدمات السليمة فهو مشمول بأنه حكم ليس مما أنزل الله.
وأما إذا لم تكن الحجة بتلك المثابة بل كانت بحيث لا تقاوم حجة الحاكم الأول كاجماع منقول لم يقتنع به الفقيه أو شهرة عارية عن الإعتبار فلا ريب ان مثل هذا الحكم يصدق عليه أنه منتسب اليهم (عليهم السلام) وبالتالي لا يجوز نقضه.
تنبيـه : هذا كله بحسب القواعد والأصول العامة للمشهور ، وأما على مختار سيدنا الأستاذ (رضوان الله عليه) فقد عرفت بما لامزيد عليه أن حكم الحاكم موضوع تام للحكم ، وعليه حتى وإن علم الحاكم الثاني بمخالفته للواقع فانه لا ينبغي له أن ينقضه أو يرده لأن الموضوع قد تحقق وهو فض النـزاع أو إصلاح المجتمع فيتحقق الحكم قهراً وهو عدم رده ونقضه.
المقام الثاني : في الفتوى
وأما حكم الحاكم الشرعي في الفتوى ، فانه لا إشكال ولا خلاف بأن الفتوى هي أمارة ظنية على الحكم الشرعي للمولى فهي محض طريق كاشف عن الواقع حالها حال سائر الأمارات التي إعتبرها الشارع حجة ودليلاً على مراده ، فإن علمنا أنها أصابت الواقع فبها ونعمت ولا يجوز مخالفتها من أي فقيه كان ، لأن الواقع اذا انكشف بتلك الأمارة فمخالفتها يعني سلوك أمارة أخرى وهذا يعني الإبتعاد عن الواقع فيقع في مخالفة الواقع المحرم مخالفته بعد إنكشافه ، وإن علمنا أنها لم تُصب الواقع فلا زال الواقع على حاله والعقل المذعن بمولوية المولى يحتم علينا الإتيان بالعمل ثانياً على طبق أمارة أخرى موصلة لحكم المولى خروجاً عن عهدة إلزامات المولى جلّ شأنه فلابد من مخالفتها وهذا لا يكون إلاّ بسلوك أمارة أخرى مخالفة للأولى ، وإن لم نعلم حالها هل هي مصيبة أم لا؟ ففي هذه الحالة يجوز مخالفتها بسلوك أمارة أخرى نقطع بأنها توصل الى الواقع أو سلوك أمارة أخرى تكون أقوى من تلك الأمارة الأولى ، لأن المفروض أن الواقع لا زال مستوراً علينا وكل الذي وصل اليه هي ظنون وهي لا تُغني عن الحق شيئاً فنحن الآن لدينا مجال واسع لإستنفار قصارى جهدنا الفقاهتي للوصول اليقيني أو التعبدي لمرامات المولى حتى نتيقن بالإمتثال لتكاليفه وهذا يكون بإعمال الفقاهة والبحث في مظان الأمارت والأدلة الموصلة قدر المستطاع الى مرامات المولى , ومن هنا تعرف معنى قوله (رضوان الله عليه) : (أما الفتوى فمنوطة بعدم العلم بمخالفة الواقع) يعني أنك ما دمت لم تعلم أنها مخالفة للواقع فيجوز البقاء عليها وتنفيذها ، أي أن وجوب تنفيذ الفتوى وعدم نقضها يدور مدار العلم بالواقع فان علم الفقيه الآخر أنها مخالفة للواقع يقيناً وجب عليه ردّها ونقضها وإن علم أنها موافقة للواقع يحرم عليه ردها أو نقضها ، وكذلك يجوز مخالفة فتوى الفقيه من قبل فقيه آخر ما دام أنه لا يعلم أنها موافقة للواقع يقيناً كما أوضحنا ذلك مفصلاً. (فاضـل البديـري 18رمضان 1431هـ).