مسألة (22) : يثبت الإجتهاد والأعلمية ايضاً بالعلم والإطمئنان والوثوق والبيّنة وبخبر الثقة أو العدل مع حصول الوثوق الشخصي بقوله.
الشـرح
بعد أن تكلمنا عن الشروط المعتبرة في مرجع التقليد بقي علينا أن نتكلم عن كيفية إثباتها ، فتكلمنا عن إثبات العدالة ، والآن نتكلم عن إثبات الإجتهاد والأعلمية بناء على ما هو الصحيح من لابدية الأعلمية ، وأما باقي الشروط كالحياة والذكورية وطهارة المولد فلا تحتاج الى إثبات دقي بل يكفي الإثبات الظاهري أي أنه ذكر وأنه حي وأنه طاهر المولد ، أما الذكورية فواضحة لأنه شيء شائع ثابتة بالوجدان وأما الحياة فهي أوضح وأما طهارة المولد فهي ثابتة بالأصل إذ الأصل بالمسلم أن يكون طاهر المولد ، فلا يحتاج الى تدقيق وتنقيب إلاّ إذا تنبيّن خلاف ذلك بالدليل القطعي، وأما باقي الصفات الثلاث (العدالة والإجتهاد والأعلمية) ليست ظاهرة بنفسها لا بالوجدان لأنها أمر مستور يحتاج الى تنقيب ولا بالأصل إذا ليس الأصل المسلم أن يكون عادلاً ولا مجتهداً ولا أعلمياً، وقد أشبعنا البحث عن إثبات العدالة، وننتقل الى إثبات الإجتهاد والأعلمية :
أما إثبات الإجتهاد : فيكون بالطرق الآتية
أولاً : العلم
يثبت الإجتهاد بالعلم الوجداني وهو العلم الحسي الذي لا يكذبه العقل، أي بالقطع الحاصل من مناشئ وأسباب عقلائية متعارفة عند العقلاء كالإختبار بنفسه إذا كان من أهل الإختبار والدراية ، والعلم والقطع فطري غير قابل للجعل والتشريع والتناقض فكشفه عن الحقائق والواقعيات كشفاً ذاتياً تكوينياًَ أي أنه نابع من طبيعة العلم وإنوجاده في وعاء النفس فمتى ما حصل العلم الوجداني حصل تابعه ولازمه وهو الإنكشاف ، فحجيته ذاتية ليست بجعل جاعل لا من الشارع ولا من غيره .
ثانياً : الإطمئنان
وهو العلم الظني الذي لا يصل الى درجة القطع واليقين من فضاكنه قريب منه ويتمثل في الشياع أي ذيوع إجتهاده ذيوعاً بحيث يُجبر على تقبّله بحكم العقلاء ، وتعبيره (رضوان الله عليه) بالإطمئنان ولم يقل (الشياع المفيد للإطمئنان) كما فعل غيره ، تعبير متين وذلك لأن الحجية والإعتبار سوف يكون الى الإطمئنان ويُنسب اليه أولا وبالذات ويُنسب ثانياً وبالعرض الى الشياع المحصّل لذلك العلم الإطمئناني وذلك لأن:
الإطمئنان هو علم عقلائي ، نابع من الظن القوي ، لأن العقلاء في نوادي تعارفهم ومجالس تبانيهم يعملون على وفق إطمئناناتهم وظنونهم المفيدة للعلم، وهذه سيرتهم ولا زالت قائمة ومستمرة، وهذه السيرة لها القابلية والشأنية على السريان الى الموارد التي لها مساس بأغراض الشارع ومراداته ، والشارع على مرأى ومسمع من هذه السيرة ويعرف أن الناس المتشرعة وهم في طليعة العقلاء يمكنهم أن يعتمدوا عليها في طريقة تعاملهم مع أحكام الشارع وينساقون وراء قرائحهم العقلائية فلو لم تكن مرضية لديه ولم يكن قابلاً بها لكان عليه أن يردع عنها بصريح العبارة حفاظاً على مراداته وصوناً لأحكامه ، وإن لم يفعل ذلك فهو ليس حكيماً وتجلُّ ساحته المقدسة عن ذلك ، ومع عدم ردعه وهو قادر على الردع هو علامة على أنه قابل بهذه السيرة وموافق عليها وماضي لها وهي نافذة عنده .
ويجب أن يكون هذا الشياع الذي أورث ذلك العلم الإطمئناني ناشئ من سبب مقبول في عرف العقلاء ويجب التمعّن فيه كثيراً والتأمّل فيه طويلاً ، لأن العلم الحاصل من أسباب غير متعارفة عقلائياً لا كاشفية فيه ولا نورانية ، بل هو جهل مركب وعمائة وظلمة وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ، فالذي يقول بحجية أي شياع وإن كان من مثل هذه الأسباب كانتشار خبره عند العوام أو بين أفراد حاشيته ومريديه وتابعيه، أو كطول لحيته ، أو كثرة حاشيته ، أو تهريجه ، أو أنه مؤدب خلوق متواضع ، أو أنه يعطي أمولاً للمحتاجين ، أو أنه إعتمد على كلام فيه مدح له قابل للتأويل ، فان ذلك القائل يقول بحجية الجهالة والضلالة ، لأن دائرة الأسباب العقلائية التي تعتمد علها السيرة العقلائية هي دائرة مضيقة وليست موسعة حتى تشمل كل الأسباب فهي مضيقة بخصوص ما إذا كانت هذه الأسباب عقلائية كالإختبار لهذا الشخص أو شياع خبره وذيوعه عند أهل الفن وأهل الإختصاص وأهل الخبرة أو سيطرته العلمية في الأوساط العلمية.
فاذن الى هنا تجلّى لديك ما نريد أن نقوله بنص العبارة:
أن العلم الظني الإطمئناني الناشئ من الشياع الذي يفيد معلومية الإجتهاد عند ذلك الشخص لا يكون معتبراً ولا قيمة له إطلاقاً إلاّ إذا كان فيه شأنية إيراث العلم المعتبر والإطمئنان المعتبر الموجبان لمعرفة إجتهاد الشخص وهو ما كان شياعاً بين أهل الخبرة وحملة العلم ونقّاد الآراء ، وليس الشياع بين أهل الجهالة والضلالة والعماءة والغباوة والسفاهة والسوقيين والطفيلين والمطبّلين والمصفّقين ، فاشهدوا على أنّي بلغت.
ثالثاً : الوثوق
وهو أدنى من الإطمئنان في إفادة العلم ، لأن الدرجة الرئيسة هي للعلم فان لم يتيسر فالإطمئنان فان لم يتيسر فالوثوق بهذا الشخص وهو على نحوين :
1- المعرفة الواقعية الشخصية بحاله الديني من خلال المخالطة الشدية له والمعاشرة الأكيدة معه من أنه خيّر فاضل من أهل الورع والتقوى ولا يمكن أن يتعدى حدود الله ، ومضت فترة طويلة على دراسته وعلى سرعة تعلّمه وفطنته وتجلس تحت درسه الفضلاء وأهل الورع والتقى وقد قال أنا مجتهد ، فلا أظن أنه يكذب وهو على هذه الشاكلة .
2- حصوله على إجازة إجتهاد من أكثر من مرجع ، فيحصل وثوق من ان هذا الشخص لو لم يكن مؤهلاً لما أعطاه ذلك المرجع هذه الإجازة مع التشديد على إعطاء إجازات الإجتهاد من قبل هؤلاء المراجع وشدة تحفّظهم وتثبّتهم.
رابعاً : البيّنة
وهي شهادة عدلين من أهل الخبرة بمعرفة المجتهد وتمييزه ومن أهل العلم في ذلك يشهدان بأن هذا مجتهد ، وهي من أهم الكواشف والعلامات العقلائية لبيان الأشياء ، وهذه الطريقة أي طريقة العقلاء على الجري وراء قول البيّنة على مرأى ومسمع من الشارع ولم يردع عنه بردع صريح واصل فنستكشف من ذلك أن الشارع ممضي لهذه الطريقة راضٍ بها ، بل أن الشاررع الأقدس قد أمضاها وقبلها صراحة فقد وردت روايات تعضد ذلك ، منها : موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : سمعته يقول (كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ؛ وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ،والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة)
منها : رواية عبدالله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الجبن ، قال : (كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة).
وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه سئل عن المطلّقة يطلّقها زوجها فلا تعلم إلا بعد سنة ، فقال (إن جاء شاهدا عدل فلا تعتدّ ، وإلا فلتعتدّ من يوم بلغها) ، ومنها روايات ثبوت الهلال بشاهدين وغيرها كثير.
نعم : لو تعارضت البينتان فواحدة تُثبت الإجتهاد والثانية تنفيه وكانتا متعادلتان ومتكافئتان من حيث القوة والصراحة فانهما يتساقطان لأن كلاً منهما تسلخ والكاشفية عن الأخرى وتنـزعها عنها ، وأما لو كانت إحدى البينتين أقوى كان تكون اشد وثوقاً وأبلغ صراحة من الأخرى فانها تتقدم عليها ، لأن السيرة العقلائية قائمة ومستمرة على تقديم الأقوى كاشفية على الأضعف كاشفية في مقام التعارض.
خامساً : خبر الثقة
وهو إخبار الثقة الواحد من أهل الخبرة والإختصاص بمعرفة المجتهد باجتهاد الشخص ، من فضاكن قد وقع الكلام هل أن إجتهاد المجتهد يثبت بخبر الثقة الواحد من أهل الخبرة؟ فنقول :
إن الدليل الرئيسي على حجية خبر الثقة هو التباني العقلائي فان السيرة العقلائية مستمرة وقائمة على العمل بخبر الثقة ، وعلى ذلك السيرة العرفية المستمرة الى آخر الزمان أيضاً وهذه السيرة المستحكمة لم يرد من الشارع ردع صريح واصل عن العمل بها إلاّ في بعض الموارد كالقضاء وفض النزاعات ورؤية الهلال ، ومن المعلوم أن هذه السيرة من شانها أن تسري الى الأحكام الشارعية ، لأن المتشرعة في طليعة العقلاء فربما ينساقون وراء قرائحهم العقلائية ويمشون على طبقها فكان حقاً على الشارع أن يبيّن موقفه منها وهي على مرأى ومسمع منه لئلا يضيّع مراداته ، وعندما لم يرد منه أي تصريح بالمنع والردع عنها إلاّ في تلك الموارد ومقدمات الردع كلها متوفره عنده فنستكشف من هذا بالكشف الجزمي أنه راض بهذه الطريقة ممضي لها إمضاءاً فعلياً ويجيز العمل على طبقها ، هذا في الأحكام الشرعية.
وأما في موضوعات تلك الأحكام كما في ما نحن فيه الآن من الإثبات الإجتهاد الذي هو موضوع لجواز التقليد ، فنقول إن هذه السيرة العقلائية على إعتبار خبر الثقة والأخذ به وعدم ردع الشارع عنها مع أن الشارع الأقدس يعرف جيداً أنها ممكن أن تكون واسعة وممتدة بل هي كذلك فعلاً بحيث تشمل الأحكام والموضوعات ويعرف تماماً أن المتشرعة من العقلاء ويمكن أن ينساقون وراء قرائحهم العقلائية ، ولم يردع عن العمل بسعتها فههذا نستكشف منه جزماً أنه راض بالعمل بها وممضي له مطلقاً سواءٌ أكانت بالأحكام أم بالموضوعات إلاّ ما ورد الردع من الشارع عنه في بعض الموارد ، بل هناك ما يوجد من إمضاءات لسانية لهذه السيرة ، مثلما ورد في رواية عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اغتسل أبي من الجنابة فقيل له قد بقيت معة من ظهرك لم يصبها الماء ، فقال له : ما كان عليك لو سكت ثم مسح تلك اللمعة بيده)، فقد إعتمد الإمام على خبر الثقة في إثبات عدم الغسل لهذا الجزء ، وغيرها كثير.
فان قلت : إن أدلة حجية الخبر الثقة تشمل الأحكام فقط ولا تتعدى الى الموضوعات لوجود الردع عن مثل هذه السيرة في الموضوعات وهو قوله (عليه السلام) في موثقة مسعدة بن صدقة : (والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة) فان الإمام (عليه السلام) حدد إكتشاف الموضوع بالإستبانة أو بالبيّنة ، وليس بخبر الثقة.
فاننا نقول : إن الرواية لنا وليست علينا وليست رادعة عن مثل هذه السيرة وهذا المحقق القائل قد غفل إن المراد من الإستبانة هنا هي الأعم من الإستبانة الشرعية أو العقلية أو العرفية العقلائية كما في خبر الثقة ، فالرواية من ممضيات هذه السيرة بلا إشكال ، فاذن المقتضي للحجية موجود وهو التباني العقلائي غير المردوع عنه وهو موسع وشامل للموضوعات أيضاً ، والرادع مضيق في خصوص بعض الموارد التي ثبت الردع فيها من قبل الشارع كأبواب الحكومة والخصومة والهلال ، فاذن لا وجه لتخصيص صدق الإستبانة بالعلم الوجداني بل نعممها الى العلم العقلائي أيضاً ، فالإستبانة كما تصدق على المحرز الوجداني فهي تصدق أيضاً على المحرز العقلائي بلا أدنى فارق.
سادساً : خبر العدل
وهو العادل الذي يميّز واجباته الشرعية ويتثبّت عندها بشرط أن يكون الركون اليه يوجب الوثوق الشخصي بقوله أي هو يثق بقوله بنفسه لا أنه إذا عُرض على عامة الناس لوثقوا به وإن كان هو لا يثق به كما في البيّنة ، بل لابد من إحراز الوثوق بقوله وإن لم يكن من أهل الخبرة ، لأن العدل الواحد لا يقصر عن إخبار الثقة والسيرة العقلائية قامت على تصديق مطلق الثقة وإن كان عدلاً واحداً، لأن العدل هو جزء من البيّنة ، فلو أخبرك شخص عادل تثق بعدالته وتحرزها أن فلاناً مجتهد وهو بنفسه تيقن من ذلك وسأل أهل الخبرة وتفحص وتثبت وأيقنت بقوله وحصل لديك وثوق به فعندئذ جاز لك أن تعتمد عليه ، وبذلك أجزنا للمرأة أن تعتمد على قول زوجها بتقليد المرجع الذي تريد ان تقلّده إذا كانت تثق بزوجها وكان عادلا في نفسه بحيث تركن اليه ويوجب عندها وثوقاً شخصياً أي هي تثق بشخصها بقول زوجها، أما اذا لم يحصل الثقة بقوله كأن يكون لأنه من أتباعه وقد أخذته الأهواء أو أنه متقلب المزاج فلا يمكن الركون لقوله .
هذه الأمور التي بواسطتها يثبت إجتهاد مرجع التقليد ، وأما بالنسبة الى إثبات الأعلمية فهي بالأمور أعلاه بنفسها لا تختلف أبداً ، والى هنا قد تجلى لدى المؤمنين كواشف المجتهد وكواشف الأعلم ، ولابد لهم من التثبّت عندها ليعلموا وراء من ينساقون ووراء من يلهثون ومن يأخذ بأيدهم الى الجنة وليتجنبوا العواطف والإنفعالات ، وليتخذوا العقل والحكمة سبيلاً للوصول التى تعاليم المولى جلّ شأنه . (فاضـل البديري 5شهر رمضان 1431هـ)