الأخلاق وكيف نهذّبها؟ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قده
اعلم
أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق
الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة
لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية
علوم جزئية، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشاً متعذر الزوال أو متعسرها،
مثلاً إذا أراد الانسان إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن
يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الأحشاء، وكلما
ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة
الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشاً بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة
الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه
بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب
الفاضلة منها أحد مسلكين
المسلك الأول :
تهذيبها
بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال:
إن العفة وقناعة الإنسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة
في أعين الناس والجاه عند العامة، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر، وإن
الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة
والوجاهة والإنس عند الخاصة، وإن العلم بصرٌ يتقي به الإنسان كل مكروه،
ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، وإن
الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب
الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم
المؤذية، وهي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء
والمحبة في القلوب.
وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه.
ولم
يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بنائه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس
عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما
جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي
كقوله تعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) البقرة/ 150. دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ)، وكقوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) الأنفال/ 46 دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وايجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدو، وقوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الشورى/ 43، دعا إلى الصبر والعفو، وعلله بالعزم والإعظام.
المسلك الثاني :
الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التوبة/ 111، وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/ 10، وقوله تعالى: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إبراهيم/ 22، وقوله تعالى: (اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) البقرة/ 257،وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.
ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: (مَا
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
فإن الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما
أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي وقدر مقدّر، فالأسى
والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمّة الأمور كما
يشير إليه قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)
فهذا القسم من الآيات أيضاً نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح
الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه
إلى إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق
بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.
فإن قلت : التسبب
بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، وفي ذلك
بطلان الأخلاق الفاضلة، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز
الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى كما استفيد من
الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضية بقضاء محتوم
أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن
كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق والدفاع عن
الحق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في
كسب كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك
بطلان كل كمال.
قلت : إن
الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل
والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن
الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للأكل غلط
فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل
الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطأ أن يفرض الانسان معلولاً من
المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شيء من أجزاء علله.
فغير جائز أن يبطل
الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، وإليه تنتسب سعادته
وشقائه، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال
والملكات الحاصلة من أفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره
من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون
اختياره سبباً وحيداً، وعلة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شيء
آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية
فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح
والأسى، والغم ونحو ذلك.
يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا
فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله ـ وهو جاهل بأن بقية الأسباب
الخارجة عن اختياره الناقص، وهي ألوف وألوف لو لم يمهد له الأمر لم يسد
اختياره شيئاً ولا أغنى عن شيء ـ
يقول الجاهل : لو
أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت
أو الموت يستند عدمه ـ أعني الربح أو العافية، أو الحياة ـ إلى ألوف وألوف
من العلل يكفي في انعدامها ـ أعني في تحقق الفوات أو الموت ـ انعدام واحد
منها، وإن كان اختياره موجوداً، على أن نفس اختيار الانسان مستند إلى علل
كثيرة خارجة عن اختيار الانسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.
فإذا عرفت
ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مر، ثم تدبرت في
الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم
والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.
فما كان من الأفعال أو
الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار، فإن
القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: (وَإِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الأعراف/ 28.
وما
كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الانسان في
التأثير، وكونه سبباً تاماً غير محتاج في التأثير، ومستغنياً عن غيره، فإنه
يثبت استناده إلى القضاء ويهدي الانسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ
بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء
كي لا يفرح الانسان بما وجده جهلاً، ولا يحزن بما فقده جهلاً كما في قوله
تعالى: (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ) النور/ 33، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) البقرة/ 3، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الكهف/ 7، نهى
رسوله (ص) عن الحزن والغم استناداً إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله
سبحانه بل ما على الأرض من شيء أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى
غير ذلك.
وهذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، ومنه شيء كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.
المسلك الثالث :
مخصوص
بالقرآن الكريم لا يوجد في شيء مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم
الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من
الحكماء الإلهيين، وهو تربية الإنسان وصفاً وعلماً باستعمال علوم ومعارف لا
يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا
بالدفع.
وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة
منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله
سبحانه يقول: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) يونس/ 65، ويقول: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)
البقرة/ 165، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعاً لرياء، ولا سمعة،
ولا خوف من غير الله، ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان
إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة وصفاً أو فعلاً عن الانسان
وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله،
والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية.
وأيضاً قد تكرر في كلامه تعالى:( (أن الملك لله)،
وأن له ملك السماوات والأرض وأن له ما في السماوات والأرض، وحقيقة هذا
الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشيء من الموجودات استقلالاً دونه، واستغناء عنه
بوجه من الوجوه، فلا شيء إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته،
وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتاً ووصفاً
وفعلاً عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الانسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه
تعالى، ولا أن يخضع لشيء، أو يخاف أو يرجو شيئاً، أو يلتذ أو يبتهج بشيء،
أو يركن إلى شيء أو يتوكل على شيء أو يسلم لشيء أو يفوض إلى شيء، غير وجهه
تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئاً إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل
شيء، ولا يعرض إعراضاً ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى
لوجوده وقعاً ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.
وكذلك قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) طه/ 8، وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الأنعام/ 102، وقوله: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) السجدة/ 7، وقوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) طه/ 111، وقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) البقرة/ 116، وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الإسراء/ 23، وقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت/ 53، وقوله: (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) فصلت/ 54، وقوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) النجم/ 42.
ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)
إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج
خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في
فنه، ولا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما
عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني
مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا
المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الاسلام على
مشرعه وآله أفضل الصلاة هذا.
فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الاسلام، وحاصله:
أن
الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤون المدنية التي بسطتها الدعوة
الدينية الاسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلّفها
وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي
يشتمل عليها الاسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو
إليها جميع الأنبياء هذا.
وأنت
بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره وخبط رأيه، فإن النتيجة فرع
لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج
لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواءً قول يدعو
إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال
هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو
إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الانسان في حياته الآخرة،
وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه
واحدٌ لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق!
وقد
أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الانساني جماً غفيراً من العباد الصالحين،
والعلماء الربانيين، والأولياء المقربين رجالاً ونساءً، وكفى بذلك شرفاً
للدين.
على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج،
فإن بنائه على الحب العبودي، وايثار جانب الرب على جانب العبد، ومن
المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الانسان المحب على أمور لا يستصوبه
العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي
الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكامٌ، وللحب أحكام.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الآية، التدبر في الآية يعطي أن الصلاة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلاة وإفراد الرحمة، وقد قال تعالى: (هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) الأحزاب/ 43، والآية تفيد كون قوله: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)، في موقع العلة لقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ)،
والمعنى أنه إنما يصلي عليكم، وكان من اللازم المترقب ذلك، لأن عادته جرت
على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى
يرحمكم، فنسبة الصلاة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيلها وكالنسبة التي بين
الالتفات والنظر، والتي بين الإلقاء في النار والإحراق مثلاً، وهذا يناسب
ما قيل في معنى الصلاة : أنها الانعطاف والميل، فالصلاة من الله سبحانه
انعطاف إلى العبد بالرحمة، ومن الملائكة انعطاف إلى الانسان بالتوسط في
إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلاة
بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبر في
مواردها هي العطية المطلقة الإلهية، والموهبة العامة الربانية، كما قال
تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف/ 156، وقال تعالى: (وَرَبُّكَ
الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ
بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ
آَخَرِينَ) الأنعام/ 133، فالإذهاب لغناه والاستخلاف
والإنشاء لرحمته، وهما جميعاً يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل
خلق وأمر رحمة، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غنى، قال تعالى: (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) الإسراء/ 20، ومن عطيته الصلاة فهي أيضاً من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلاة وإفراد الرحمة في الآية.
قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)،
ولذلك جدد اهتدائهم جملة ثانية مفصولة عن الأولى، ولم يقل: صلوات من ربهم
ورحمة وهداية، ولم يقل: وأولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير
بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين أن الرحمة هدايتهم
إليه تعالى، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتدائهم نتيجة هذه
الهداية، فكل من الصلاة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة
بنظر آخر.
فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل
صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسأل عنها يريد النزول فتلقاه بالبشر
والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره، ولا تدعه يضل في مسيره حتى
تورده نزله من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه
من كل مكروه ويصيبه فجميع هذه الأمور إكرام واحد لأنك إنما تريد إكرامه،
وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص، والهداية غير الإكرام، وغير التعاهد، وهو مع
ذلك إكرام فكل منها تعاهد، وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص، والجميع
إكرام. فالإكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة، والتعاهدات في كل حين بمنزلة
الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء.
والآيتان بالجملة الإسمية في قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، والابتداء باسم الإشارة الدال على البعيد، وضمير الفصل ثانياً وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: (الْمُهْتَدُونَ) كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه.
المصدر : الميزان في تفسير القران/المجلد الاول
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قده