مراتب النفاق وعلاجه
بسمه تعالى
بعد أن بينا في المحاضرة السابقة تعريف النفاق وقلنا انه من الرذائل
النفسانية والملكات الخبيثة التي تنجم عنها آثار كثيرة وبينا ما هو موقف
الشريعة منه،،، نحاول الآن بيان مراتب النفاق ودرجاته وطرق معالجته، وقبل
الخوض في هذه المطالب نقدم مقدمة.
مقدمة :
إن الأمراض النفسية اخطر وأقوى من الأمراض الجسدية ، وذلك لان علاج
الأمراض الجسدية عن طريق الطبيب وتناول الأدوية والحمية التي تحمل أثرا
سلبيا يمكن ملاحظته فيضطر الشخص إلى معالجة نفسه خوفا منه من تفاقم المرض،
أما علاج النفس والأخلاق فالأمر يحتاج إلى تعيين المرض أولا وهذا يكون عن
طريق نفس الشخص لان المرض الخلقي لا يمكن التنبه إليه خصوصا إذا اعتاد
المرء عليه بخلاف المرض الجسدي الذي آثاره ظاهرة ويحمل الألم الذي تنقله
الأعصاب مباشرة إلى الدماغ فينبه الإنسان عليه ويعالجه من حينها ، فلا بد
ان يتم تعيين المرض بنفس النفس و تشخيص الحالة الخلقية وطرق العلاج لها ،
وقد يتوهم الإنسان بطرق العلاج نتيجة لعدم إلمامه وعدم إحاطته بالمرض
ويتفاقم ،، لذلك ففي هذه الأمور والصفات النفسية يجب الرجوع إلى الله تبارك
وتعالى والى أهل البيت عليهم السلام في تشخيص هذه الأمراض وطرق معالجتها
فان صاحب البيت اعلم بما فيه ...
في بيان مراتب النفاق:
بعد ان بينا المقدمة يتضح لنا ان لكل صفة خلقية مرتبة تكون في بادئ الأمر
وتشتد وتقوى لا إلى نهاية كلما أطلق الإنسان لها العنان ولم يعالجها
بالوسائل العلاجية الناجحة.
فالمرء إذا ترك النفس الأمّارة على حاله، فبسبب ميلها إلى المعاصي وعدم
ارتياحها ومساعدة الشيطان لها والوسواس الخنّاس اندفعت لأجل كل ذلك نحو
الفساد. فيتـفاقم حالها، وتزداد قو ة وشدة يوماً بعد يوم، حتى يصل الأمر
بتلك الرذيلة التي تابعها أن تصبح هي المسيطرة على القوى الشهوية وتسيطر
عليها وتصبح المملكة تحت سيطرتها وبهذا يشير أمير المؤمنين عليه السلام : كم من عقل أسير تحت هوى أمير. فيكون العقل مأمورا من قبل الشهوات وخاضعا لها.
فعليه يمكن ان نكون فكرة عن مراتب النفاق :
فمنها ما يكون مع نفسه وأصحابه :
بان يكون منافقا مع نفسه فيجعل العقل أسيرا وعاملا وخادما ومملوكا للشهوة ،
وأما مع الآخرين وذلك عن طريق إظهاره الإيمان وإبطانه النفاق والكفر الخفي
فتجده يبتعد عن الظهور في مواطن الريبة والشك بان لا يسمع ما حرم الله
أمام الناس ولا ينظر إلى ما حرم الله ويبتعد عن كل المعاصي أمام الناس
بينما مع نفسه تجده مُسيطرا عليه وتابعا لهواه ، وهذه من المراتب الواضحة
في النفاق أعاذنا الله تعالى منها.
ومنها ما يكون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام: بان يكون أمامهم وعند حضرتهم مطيعا لهم ومساندا ومبغضا لأعدائهم ,و و و ، بينما مع نفسه تجده عكس ما هو معهم عليهم السلام.
ومنها ما يكون مع الله تبارك وتعالى:
وهو أشد وأقوى أنواع النفاق والتي قد يبتلى بها المؤمنون فضلا عن المسلمين
وخطرها عظيما ومراتبها مشككة بين الأشخاص فلا يستطيع الشخص يحزر هذا الأمر
إلا بالخروج من نفسه ومن كل شهواته والنظر إلى نفسه من خارج وهذا لا يكون
إلا بمعونة من الله فكيف بمن نفاقه كان مع الله ؟؟
يقول السيد الإمام الخميني في كتابه الأربعون:
(إننا
الآن غارقون في نوم الغفلة، محكومون لسكر الطبيعة، والميول والرغبات التي
تزيّن لنا كل قبائح الأخلاق وفساد الأعمال، وإذا ما استيقظنا وصحونا من هذه
السكرة العميقة يكون قد فات الأوان. إذ نجد أنفسنا قد صرنا في زمرة
المنافقين وذي الوجهين واللسانين وحُشرنا بلسانين من نار، أو بوجهيـن
مشوّهين بشعين! وعندئذٍ لـن تنفعنا نداءاتنا (رَبِّ ارْجِعُونِ). إننا نجاب
بـ"كلاّ". إن صفة التلون هذه تكون بحيث أننا ـ أنا وأنت
ـ نقضي كل عمرنا ونحن نظهر التمسك بكلمة التوحيد، وندعي الإِسلام
والإِيمان، بل المحبة والمحبوبية، وغير ذلك من الادعاءات على قدر ما نشتهي
ونحب).
في معالجة النفاق:
اتضح مما ذكرنا خطر هذه المفسدة الخلقية على الإنسان بصورة خاصة وعلى
المجتمع بصورة عامة ويتبين من تواعد الله تبارك وتعالى عليها بالعقاب في
عظمها وخطرها لذلك يجب ان نفكر تفكيرا سليما في كيفية معالجة هذه المسألة
المهمة للشخص وللمجتمع، وعموما هناك طرق للمعالجة:
أحدهما:
هو التفكير في المفاسد التي تنتج عنها ،،،فإنه إذا عُـرف بهذه الصفة بين
الناس سقط من أنظارهم، وفقد كرامته بين أصحابه، فيطردونه من مجالسهم،
ويتخلف عن محافلهم وندواتهم،فعلى الإِنسان ذي الشرف والضمير أن يطهّر نفسه
من هذا العار لكيلا يبتلى بأمثال هذه الحالات من الذل والضعة، هذا في
الدنيا التي هي زائلة وينبغي ان يكون تفكيره كذلك في عالم الآخرة، عالم كشف
الأسرار، إذ كل ما هو مستور قي هذه الدنيا عن أنظار الناس لا يمكن ستره في
عالم الآخرة، فهناك يحشر وهو مشوّه الخلقة بلسانين من نار،كما أكدت وأشارت
الروايات على ذلك، ويعذب مع المنافقين والشياطين.
الطريق الآخر:
وهو الأسلوب العملي وهو أن يراقب الإِنسان حركاته وسكناته بكل دقة لفترة
من الوقت، وأن يعمد إلى العمل بما يخالف رغبات النفس وتمنياتها، وأن يجاهد
في جعل أعماله وأقواله في الظاهر والباطن واحدة وأن يبتعد عن التظاهر
والتدليس في حياته العملية، وأن يدعو الله تبارك وتعالى في سبيل التوفيق
والنجاح في التغلب على النفس الأمارة وأهوائها، ويعينه في محاولاته
العلاجية، إذ أن فضل الله تعالى على الناس ورحمته بهم لا نهاية لها. وهو
يشمل بعونه كل من خطا نحو إصلاح نفسه، فإذا ثابر على ذلك بعض الوقت، يصل
إلى حيث يتطهّر قلبه من هذه الرذيلة ليصبح موضع ألطاف الله ورحمة ولي نعمته
الحقيقي، فما دمنا في دار العمل، فإننا نستطيع بإرادتنا وبمعونة الله
تبارك وتعالى أن نحصل على السعادة الأبدية قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه).
وهناك طريق آخر وهو أنه معلوم ان النفاق مصدر كثير من المفاسد فلا يتصف
بها الإنسان الشريف، ويُعتبر المتصف بها خارجاً عن المجتمع الإِنساني، بل
لا يكون شبيهاً بأي حيوان فضلا عن الإنسان، ويبعث على الفضيحة والذل في هذه
الدنيا أمام الأصحاب والأقـران، كما أنه يوجب الذل والعذاب الأليم في
الآخرة فقد جاء وصف المنافق بأن صورته في ذلك العالم "أَنَّهُ يَحْشَرُ بِلِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ" ويسبب الفضيحة أمام خلق الله وفي حضرة الأنبياء المرسلين والملائكة المقربين.
فعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (
يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ ذُو الوَجْهَيْنِ دَالِعاً لِسَانَهُ فِي
قَفَاهُ وَآخَرُ مِنْ قُدّامِهِ يَلْتَهِبَانِ نَاراً حَتَّى يَلْهَبَا
جَسَدَهُ. ثُمَّ يُقَالُ هذَا الذَّي كَانَ فِي الدُّنْيَا ذَا وَجْهَيْنِ
وَلِسَانَيْنِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ). وَيَكُونُ مَشْمُولاً بِالآيَةِ الشرِيفَة:
(وَيَقْطَعُونَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ
أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
ثم إن النفاق مصدر لمثل"الفتنـة" التي ينص القرآن الكريم على إنها
"أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ" والتي قد تكون عن طريق نقل الأخبار المغلوطة للناس.
ومثل "النميمة" التي يقول عنها الإِمام الباقر عليه السلام:
"مُحَرَّمةٌ الجَـنَّةُ عَلَى القَتَاتِين المَـشّائِين بالنَّمِـيمَةِ".
ومثل "الغيبة" التي قال عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:
"إِنَّـهَا أَشَدُّ مِـنَ الزِّنَـا".
ومثل إيذاء المؤمن وسبه وكشف الستر عنه وإفشاء سره، وغيرها مما يعد كل واحد منها سبباً مستقلاً لهلاك الإِنسان.
وتندرج تحتها أمور من قبيل: الغمز واللمز والكنايات التي يطلقها البعض على البعض الآخر، على الرغم من إظهار المحبة والصداقة الحميمة.
فما كانت هذه صفاته تشمئز منه النفس إذا تدبرت في سلبياته وفي هذه الأمور
التي ذكرناها فتبتعد عنها تدريجيا بمعونة الله تبارك وتعالى وأهل بيت النبي
عليهم أفضل الصلاة والسلام.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من العالمين العاملين وأن يجيرنا من
النفاق إنه سميع الدعاء ... اللهم صلِّ على محمد وآل محمد ...
المصدر: مجلة الفرات (57)
الشيخ سعد الغري