إن الهدف من هذه المجالس أن يخرج الإنسان بتغيير جوهري في ذاته ، وإلا فالذي يدخل الحمام ثم يخرج وآثار الدرن ما زالت على بدنه ، يُعلم بأنه لم يستحم أو لم ينتفع من دخوله ؛ لأن حاله قبل الدخول هي ذاتها بعد الخروج ، فدخول الحمام ليس مطلوباً فى حد ذاته ، بل إنه يستلزم التخلص من الأدران العالقة بالبدن ، ولهذا نلاحظ هذا التشبيه من النبي الأكرم (ص) حيث قال: (أريتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ، هل يبقى من درنه شيء؟..قالوا:لا يبقى من درنه شيء ، قال فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).
فالذي تمر عليه المواسم العبادية في شهر محرم وصفر ، وفي موسم رمضان والحج.. دون أن يلمس تغييراً في هذه الروح -والتي شأنها أعلى وأسمى من ذلك البدن- ولم يطهرها من الشوائب والعوالق ، مثله كمن يتناول دواءً طلباً للاستشفاء ولكن لا يجده مؤثراً ، والسبب فى ذلك انه على شكل الدواء وليس هو الدواء نفسه والا كان مؤثرا فمن انتفاء الاثر نعلم ان المؤثر ليس هو الحقيقى منه .
- من المعلوم عداء الشيطان الأصيل لبني آدم ، فهو لا ينفك عن الإنسان حتى يرديه قتيلا.. فلو أنه يئس من ارتكابه للحرام ، تراه يلهيه ويخدره بالحركات العاطفية ، ويلقي عليه البكاء والخشوع ، مغفلاً إياه عن التحرك لتغيير ذاته ، وما ان يتحرك للتغيير ، فإنه سيجلب عليه بخيله ورجله ، ويستنفذ كل طاقته وقواه ؛ ليصده عن الحركة..فالحركات العاطفية لا تهم الشيطان أبداً ، ومن هنا تفنن الخوارج -الذين حاربوا أمير المؤمنين ع - في ذلك ، فالشيطان أقنعهم بالحركات العاطفية والعبادية ، وجعلهم في موقف عدائي وقتالي مع إمام زمانهم.
- من الملاحظ في عالم تكامل الأبدان ، أن الإنسان ينتقل من مرحلة إلى أخرى بشكل قهري وطبيعي إلى أن يلقى الرب الكريم.. بينما في عالم الأرواح ، فإن الحركة التكاملية اختيارية، والذي لا يتحرك ولا يبذل جهده سعياً لتحقيق تكامل روحه ، فإنه وضعه لن يتغير وسيبقى ثابتاً ، فظاهره إنسان بالغ راشد ، ولكنه في الواقع يحمل في باطنه طفلاً صغيرا!..
فما دام أن الدنيا ليست بدار قرار ، والإنسان شاء أم أبى صائر إلى لقاء ربه تعالى ، كيف يمكن له أن يستثمر هذه الفترة من الولادة إلى الموت ، لتحقيق اللقاء الاختياري قبل أن يصير إلى اللقاء الإجباري؟..كيف يموت قبل أن يموت؟..
إن هذا سفر ، والمسافر يحتاج إلى دابة ، إلى زاد ، إلى خارطة طريق ، إلى رفقاء ، إلى التعرف على الأعداء والعقبات.. الخ من العناوين المفصلة والعديدة التي قد تناولها علماؤنا الأبرار..
فإذن ، ماذا نعمل لنخرج من واقعنا الذي نحن فيه؟..
- إن قوام السفر أمران :أولاً : أن يعيش الإنسان حالة التأذي والتبرم من واقعه.
ثانياً : أن يتصور المتع واللذائذ البديلة.
فالإنسان الذي يعيش حالة الارتياح من وضعه في الحياة ، ويقنع بحياته المستقرة من جميع النواحي ، من الطبيعي أن لا يفكر في السفر.. وأيضاً فإن حالة الشوق وتصور الجمال في الهدف المقصود ، يستلزم العزم وشد الرحال..
ولا خلاف في كون طبيعة الحياة الدنيا طبيعة مملولة ، ومتعها متع محدودة وزائلة..إن الإنسان يعيش في هذه الدنيا على أمل أن يحقق شيئاً ، أو يصل إلى بغية ما ، وهذا هو الذي يجعله يعيش الأنس ، ويجعله يكدح ويتعب ويتحمل كل ما يتحمل.. ولكنه كلما تقدم به العمر يضعف هذا الامل، وازدادت وحشته ، فكم من الذين عاش معهم وأنس بوجودهم ثم ارتحلوا عنه ، وحتى أدوات التلذذ لديه تضعف مع الزمن.
والغريب اننا نلاحظ ان للانتحار في المترفين وفي أولاد المترفين نسبة عالية؟..لأن هؤلاء وصلوا إلى آخر الطريق ، فالفقير يتعب ويكدح ليصل إلى الغنى ، والشاب الأعزب يجاهد ويدرس ويتغرب على أمل ليلة الزفاف والزواج ، والأم تتحمل تبعات الحمل وما شابه ذلك :{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } على أمل ساعة ولادة الطفل.. اما الذي وصل إلى الغنى واستغنى ، والذي تزوج وجاء بالأولاد ، والذي استقر سكنه ، والذي اشترى دابته ، والذى استقر امر معاشه كالمتقاعدين مثلا ، ما الذي يجعله يعيش الأنس في هذه الحياة الدنيا؟..ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص) :الأمل رحمة لأُمّتي ، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرا ..
فإذن، آفة الدنيا أمران: الانقطاع والتمامية.. والثاني: بهجتها بهجة مملولة تزول مع الزمن والألفة ومن هنا قيل لكل جديد بهجة !.
دخلت بعض البيوت التي أشبه بالقصور ، ولكن لا تبقى فيها نصف ساعة إلا وترى كل شيء لا جاذبية له ، وكأن هذا البيت كباقي بيوت العالمين لا تميز فيه..ذهبنا إلى منطقة يقال انها من أجمل بقاع العالم.. قلت: لهم هذا هو آخر جمال الطبيعة ، هذا هو البحر الهادئ ، أشجار النخيل الباسقة ، الجبال العالية وهي مكتسية بالأشجار الاستوائية الجميلة ، وهذا المناخ اللطيف ، النسيم العليل.. ثم ماذا؟..هذا كمال للطبيعة لا لي أنا ، أنا إنسان مسافر ، إنسان متفرج أجتاز هذه المنطقة وأعبرها ، ما الذي دخل في جوفي؟.. هذه الشجرة جمال للجبل ، هذا الموج جمال للبحر ، هذه الأزهار جمال للحديقة.. أنا رجع إلى وطني وأترك كل هذه المناظر..
كنا في سفرة إلى بلد بعيد ، اجتمعنا مع الطلبة ، قلت لهم:تذكروا ساعة العودة!.. أنتم إقامتكم في هذا البلد الجميل أربع خمس ست سبع سنوات ، ولكن سياتى يوم الفراق اما بالموت ، او انه فى يوم من الأيام ستركبون الطائرة وترجعون إلى بلادكم ، وهذه الأيام التي قضيمتوها في المتعة المحرمة سوف تنتهي ولا يبقى منها إلا الحسرات (شتان بين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره).
- إن الخطوة الأولى في هذا السفر تبدأ من لحظة الانقلاب والاستفاقة على الواقع الذي يعيشه الإنسان ، فالذي يتأمل في نفسه ويعيش حالة التبرم وعدم الرضا ، من المرجو له أن يتحرك ويبدأ سفره هذا.. مثله كإنسان خُدر وخُطف وإذا به يستفيق ويرى نفسه والأعداء يحيطونه من كل جانب ، فهذا من المتوقع أن يسعى لتخليص نفسه ، ويبادر بالفرار ما أمكنه بكل جهده ووسعه وطاقته ، حتى يبتعد ويصل إلى مأمنه..
- ان البعض قد يتعذر بعدم وجود الدليل والمرشد ، والحال بأن صاحب الأمر (ع) في كل عصر هو المسؤول والراعي عن لهذه الأمة ، وهدفه تنمية القابليات.. نحن نعتقد أن الإمام الحسين (ع) وصل إلى قمة السفر ، وأخذ بيده أصحابه ، وآخر قابلية نماها ، هي قابلية الحر بن يزيد.. فهو بنظرة ملكوتية ولائية أنقذه مما هو فيه ، وإلا فإن الحياة التي أمضاها الحر في جهاز الظالمين لم تكن تخوله لهذه النقلة ، ولكن يقال بأن الذي جعله يترشح لكرامة ونظرة إمام زمانه ، هو صلاته مع الإمام (ع) ، واحترامه لمولاتنا فاطمة الزهراء (ع) عندما قال له الإمام : ثكلتك أمك!.. واذا به يستنكف ان يرد بالمثل وامامه ابن فاطمة (ع) .. وعليه فان الحر الذي كان قائد جيش يقاتل إمام زمانه ، والذي أرعب قلوب الهاشميات ، رأى فيه الامام الحسين (ع) القابلية ، ونمى هذه القابلية بدعائه وبحركته وبقوله.. ومن المعلوم ان صاحب الأمر هو وارث الحسين (ع) ، ونحن عندما نقول السلام (عليك يا وراث أبا عبد الله ) مخاطبين امام اماننا ، فعلينا ان نعرف ان هذه الوارثية ليست من ناحية الثأر لدمه فحسب ، إنما ملكات الأئمة وكل ما يقال عن المعصومين ، كلها مجتمعة في إمام زماننا (ع) ، وهو راعي هذه الأمة..
وعليه، فإن الذي يقدم قرباناً ويقوم بحركة إيجابية ، فإنه -بلا شك- سيكون في محط ألطاف الإمام صاحب العصر (عج) وعنايته ، الذي إذا رأى القابليات المتميزة فإنه ينميها.. ويحسن ذكر هذه العبارة الجميلة لأحد العلماء الأجلاء : (إن الإنسان إذا صار مخلصاً وجاداً في الوصول إلى الله حتى الحائط يتحول له إلى أستاذ ، وإلا لا تنفعه مواعظ النبي الأكرم (ص)).. فإذن، المهم على الإنسان أن يبدي صدقه ويثبت حسن نيته..
- إن تصور البدائل الأخرى من اللذائذ ، من المحفزات التي تدفع الإنسان إلى السفر.. فالذي يضيق من حر الصيف في مقر سكنه ، ويتصور جمال الطبيعة في مكان آخر ، لا شك في أنه سيشد الرحال إليه ، وإن كلفه الأمر آلاف الدنانير ، فكيف إذا كان قد ذهب مسبقاً ، ورأى بعينه ذلك الجمال؟!..
من المعلوم ان هناك نعيم اعد للمؤمن في الجنة من الحور ، والغلمان ، والقصور ، والأرقى من ذلك أن يصل الإنسان إلى مرتبة الخَّلاقية ، يقول للشيء كن فيكون ، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى:{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } ، وقوله تعالى : {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }..ومن اللطيف أن الإنسان عندما يدخل الجنة ، تأتيه بطاقة تهنئة من رب العالمين : (من الحي الذي لا يموت ، إلى الحي الذي لا يموت)..ولكن ما هو الأرقى من ذلك كله ؟..القرآن الكريم في آية أخرى يقول :{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}.. إن أهل الجنة ينشغلون عن الحور والقصور بالنظر إلى جمال الوجه الإلهي ، فما يعيشونه من النعيم المعنوي -الرضوان الإلهي- لا يقاس أبداً بذلك النعيم الحسي..
هذا النعيم -الذي يمثل أرقى لذائذ الجنة- بإمكان الإنسان أن يعيشه وهو في الحياة الدنيا ، أي بإمكانه أن يصل إلى رحيق الجنة.. ولو أعطي إنسان هذا الرحيق ، فإن الجنة لا يكون لها أملاً أو شوقاً كبيراً في نفسه ؛ لأنه حصل على الفوز العظيم ، الذي هو أرقى من الجنة وما فيها..لهذا علي (ع) يقول ما مضمونه : جلوسي في المسجد أحب إلي من الجلوس في الجنة ، لأن جلوسي في المسجد فيه رضوان ربي..
وقد يقول قائل: إنه إذا وصل إلى الرضوان الإلهي ، فإذن ما القيمة المرجوة من الجنة؟..
الجواب: بأن للرضوان الإلهي درجات ، قسم منه يُعطى في الحياة الدنيا ، وقسم منه يعطى في الآخرة..كموسى (ع) عندما كلمه الله عزوجل في طور سيناء:{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }..
نلاحظ أنه استمع للخطاب الإلهي بكل هدوء ، واقتبس ناراً ، ثم رجع إلى أهله نبياً..ولكن في وادٍ آخر لما تجلى ربه للجبل فجعله دكاً ، موسى خر صعقا :{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }..فالتجلي هو التجلي ، ولكن الشحنة رُفعت درجتها ، وإذا بموسى يخر صعقا ، ومن المحتمل أنه لو زاد التجلي ، لفنى موسى من الوجود..
والإنسان بطبعه يحب الرحيق ، فمع وجود هذه الثمرة الكبرى من هذا السفر ، ألا يستحق أن يسافر ليصل إلى رحيق الجنة قبل الدخول للجنة؟!..
- إن البعض -مع الأسف- قد جعل المقامات والدرجات العليا حكراً على أصحاب الحوزات ، وأهل النخب في المجتمع.. فإذا كان الأمر كذلك ، فلمن يوجه هذا الخطاب الإلهي في كتابه الكريم :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }، { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }؟..وأمير المؤمنين (ع) من يعني في وصفه للمتقين : (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم الصواب و ملبسهم الاقتصاد، و مشيهم التواضع ، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، و لولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، و خوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم..)؟..
إن الباب مفتوح للجميع ، ومن أراد وصل حيث انه تعالى لا يحتجب عن خلقه الا ان تحجبهم الاعمال دونه ، وكم هم الذين حققوا درجات من القرب الإلهي ، وهم من العامة ، من أهل الوظائف وغيرهم.. فلنفتح شهيتنا على هذه الدرجات ، وأول زاد السفر إلى الله ، هذه الهمة للخروج من هذا الواقع.