الإمام الحسن بن علي العسكري(ع) - التوحيد ملاحقة الأفكار المنحرفة
كلماته في التوحيد
ونحاول هنا إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الحسن العسكري(ع) في شؤون العقيدة والتفسير والأخلاق، لأنّ علاقتنا بالأئمة(ع)، كما ذكرنا أكثر من مرة، هي علاقة السير على منهاجهم والانفتاح على علمهم، والتحرّك في الواقع الذي يصنعونه ويديرونه ويقودونه.
ففي باب التوحيد، هناك عدة أحاديث في جانب العقيدة بالله سبحانه وتعالى، حيث كان الجدل يدور في المراحل التي عاش فيها الأئمة من أهل البيت(ع)، منذ عهد الإمام الباقر(ع) حتى عهد الإمام العسكري(ع)، في صفات الله، فكان بعضهم يتحدّث عن أن الله جسم، والبعض يتحدث عنه أنه صورة وما إلى ذلك، وكان الأئمة(ع) يتّبعون في توجيه الناس منهجاً يعتمد لغة القرآن بأسلوبه ومفرداته في العقيدة، ليوجّهوا الناس إلى الأخذ بالعناوين الكبرى في العقيدة من القرآن، وأن لا ينطلقوا من خلال أسلوب الفلسفة، لأنّ هذا الأسلوب بالرغم مما يحمله من إيجابيات، إلا أنه لا يملك أن يتحدّث عن الله سبحانه وتعالى كما هو الحديث عن صفاء العقيدة، لأن التعقيدات الفلسفية قد تردّ الشبهات، ولكنها لا تستطيع أن تبني العقيدة.
فعن يعقوب بن إسحاق قال: "كتبت إلى أبي محمد(ع) أسأله: كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع(ع): يا أبا يوسف، جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى ابائي أن يُرى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام:103]، {ليس كمثله شيء} [الشورى:11] قال: وسألته: هل رأى رسول الله(ص) ربه؟ فوقّع(ع): إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ"(7).
فلقد رأى رسول الله(ص) ربّه، ولكنّه لم يره بالعين الباصرة، بل بعين قلبه، لأنّ القلوب تبصر من الحقائق ما لا تستطيع العيون أن تبصره {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]. فمشكلة بعض الناس أنهم يملكون العيون المفتوحة والقلوب العمياء، والخطورة كلّ الخطورة أن يكون القلب أعمى.
وعن الكليني عن سهل: (والراوي هنا قد لا يكون موثوقاً، ولكنّ الرواية موثوقة لأنها تتفق مع روايات صحيحة، ولأنها لا تشتمل على ما يدعو إلى الكذب) "قال: كتبت إلى أبي محمد(ع) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد ـ وهذا يدلّ على أن الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت(ع) ـ فمنهم من يقول هو جسم، ومنهم من يقول هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطوّلاً على عبدك ـ والعبودية هنا من باب التواضع ـ فوقّع بخطّه(ع): سألت عن التوحيد وهذا منكم معزول، الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم، ويصوّر ما يشاء وليس بصورة، جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره وليس كمثله شيء وهو السميع البصير"(8).
فلقد أراد الإمام العسكري(ع) أن يقول للسائل أن لا يستغرق في الجدل الكلامي والتعقيدات الفلسفية عندما يتحدث عن الله سبحانه وتعالى، ولكن طلب إليه أن يقرأ كتاب الله في ما أنزله من آياته، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها، لأنَّ المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلاَّ ما عرّفه ربه، وإلاّ ما يمكن أن يدركه العقل من صفاته، فهو ليس بجسم لأنه خالق الأجسام، وهو ليس بصورة لأنه خالق الصورة ومبدعها.
وقد جاء عن المسعودي في (إثبات الوصية) بإسناده عن أبي هاشم الجعفري، قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد(ع) عن قول الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أمّ الكتاب} [الرعد:39]. فقال: "هل يمحو إلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن"؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقول (هشام القوطي) إنّه لا يعلم الشيء حتى يكون. فالله سبحانه وتعالى ـ حسب هذا القول ـ إنما يعلم الأشياء بعد أن تتكوّن، والإمام(ع) يقول إنّ الله يعلم بالأشياء قبل وجودها ـ فنظر إليّ شزراً ـ فكأن الإمام(ع) عرف ما في نفسه.
وهناك أحاديث كثيرة عن الإمام العسكري وعن الأئمة(ع) تذكر أنّ بعض الناس كان يسمع الجواب من الإمام عما كان يدور في ذهنه وهو يفكّر، أي لم يطرح السؤال بعد، حيث إن الملكة القدسية تجعله(ع) يعرف ما يضمر هؤلاء من قبل أن يتحدّثوا به ـ فقال(ع): تعالى الجبّار العالم بالشيء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والربّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه"، فقلت: أشهد أنّك وليّ الله وحجّته والقائم بقسطه، وأنك على منهاج أمير المؤمنين"(9). فلقد أكّد له أنَّ المخلوقين يحتاجون إلى معرفة الأشياء في صورتها الوجودية، أما الله فهو الذي يخلق الوجود، فهو يعرف ما يريد أن يخلقه قبل أن يخلقه.