تقسيمات القضية الحملية
3 - شخصيَّة، طبيعيَّة، مهملة ومحصورة
وهذا التقسيم هو أساس التقسيمات الآتية بل هو الأساس لكثير من المسائل المنطقيَّة. والمحور في هذا التقسيم هو الموضوع، وعلى ضوئه، نقسم القضية إلى الأقسام الأربعة، وذلك لأنَّ الموضوع إما أن يكون جزئياً حقيقياً وإمّا أن يكون كلياً.
* فإن كان الموضوع جزئياً حقيقياً فالقضية تسمى:
1 ـ شخصية ومخصوصة، سميت شخصية لتشخصها وتَعَيُنِها في الخارج، وسميت مخصوصة باعتبار أنها متخصِّصة.
مثال ذلك:
ـ محمدٌ رسولُ الله: هذه قضيَّة حملية شخصية موضوعها (محمد) ومحمولها (رسول الله) وبما أنَّ الموضوع، مخصوص بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله، فالقضيَّة إذاً شخصيَّة.
ـ الكعبةُ قبلةُ المسلمين: موضوع هذه القضيَّة هو (الكعبة) ومحمولها (قبلة المسلمين) وهي مخصوصة، لأنَّ الكعبة جزئي حقيقي وهي بيت الله الحرام.
ـ وكذلك (هو عالمٌ) و(أنت مسلمٌ) و(هذا كتاب المنطق) وكلُّ قضيَّة يكون موضوعها أحد المعارف التِّي بُيِّنت في علوم العربيَّة، فهي جميعاً تدلُّ على مفاهيم جزئيَّة حقيقيَّة، يمتنع فرض صدقها على كثيرين.
* وإن كان الموضوع كلياً فله ثلاث حالات:
فلو كان الموضوع كلياً فربَّما ننظر إليه ككلِّيٍ موجودٍ في الذهن وربَّما ننظر إليه بما هو مرآة كاشف عن الواقع الخارجي.
- فإن نظرنا إليه ككلي موجود في الذهن وحكمنا عليه بما هو كلي، بغضّ النظر عن أفراده، على وجهٍ لا يصح أن يرجع الحكمُ إلى الأفراد، فهذه القضية تسمى:
2 ـ قضية طبيعية وذلك لأن الحكم قد ورد على الطبيعة أي المفهوم والماهية الكلية المتصوَّرة.
أمثلةٌ:
أ - الإنسان نوع: فالنوع قد حمل على الإنسان لا بما هو موجودٌ في الخارج، حيث لا ننظر إلى مصاديقه التي هي (علي وأحمد وحسن)، بل نلاحظ مفهوم الإنسان ككليٍ موجودٍ في ظرف الذهن الذي لا علاقة له بالخارج أصلاً، وهذا الإنسان بتلك المواصفات هو نوعٌ أي حقيقة مشتركة بين أفراد مختلفة.
ب - الناطق فصل: فالناطق الملحوظ هنا هو الجزء المساوي للنوع - أعني الإنسان - والمفهوم الذي يميِّز النوع عن سائر الأنواع وهو الفصل الذي يقع في جواب أيُّ شيء هو في ذاته؟ ومن الواضح أنَّ هذا المفهوم غير موجود إلاّ في الذهن. وكذلك بالنسبة إلى: الحيوان جنسٌ والضاحك خاصة والماشي عرضٌ عام.
- وإن نظرنا إلى الكليِّ بما أنَّه يحكي عن المصاديق والأفراد، فحَكمنا على الكلِّي ولكن لا بما هو كلي الذي موطنه الذهن، بل بملاحظة أفراده - وبإمكان الذهن أن يتصور الكلي ولا ينظر إليه بصورة مستقلَّة - فيكون النظر إليه في هذه الصورة، كالنظر إلى المرآة، فكما أن الإنسان ينظر إليها ليرى صورته فيها، فكذلك ينظر إلى المفهوم الذهني لأنَّه كاشفٌ عن الواقع الخارجي، فكلُّ توجُّهِه يتركَّز على الأفراد الخارجية، وحينئذٍ لا يحكم على الفرد الخارجي بل على المفهوم، ولكن بما هو موجودٌ في عالم الخارج، وهذا يكون على نحوين:
الأول: لم يبين فيها كمية الأفراد فلا يُدرى أكلُّ الأفراد محكومون بذلك الحكم أو بعضها؟ فهذه القضية تسمى:
3 - قضية مهملة وسميت مهملةٌ، لأنَّه قد أُهملت فيها كمية أفراد الموضوع.
أمثلةٌ:
أ - قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}
موضوع هذه القضيَّة هو الإنسان، بما هو في الخارج لا في الذهن، لأنَّ الإنسان الذهني الذي هو نوعٌ من الأنواع ليس في خسر أصلاً، فالمصاديق الخارجية هي التي وقعت منظوراً إليها، غاية ما هناك أنه لم يُعيَّن عددها، فلا يُدرَى عدد الأفراد الواقعة في الخُسر، أَكلُّهم أم بعضُهم فرغم أنَّ موضوع هذه القضية هو كليٌّ إلاّ أنَّها مهملة من جهة عدم تعيين أفراد الموضوع، وكذلك قوله تعالى: {بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.
ب - قولنا: (المؤمن لا يكذب) فهي مهملة لأنَّه لم يُعيَّن فيها عدد المؤمنين كلاً أو بعضاً.
الثاني: قد بيَّن فيها كميةُ الأفراد جميعاً أو بعضاً فالقضية حينئذٍ تسمى:
4 - محصورة أو مُسَوَرَّة لأنه قد أحاط بها سورٌ، فحدَّدت أفراد موضوعها. وهي على قسمين: كلية وجزئية.
أمثلةٌ الكلِّية:
أ - (كلُّ ربا محرمٌ).
فالربا مفهوم كليٌ وقع موضوع القضيَّة ومحرَّمٌ محمولُه. وقد لوحظ الربا كعنوان ومرآة لأفراده، أي أنَّ المعاملات الربوية التي تتحقق في عالم الخارج، هي المحرَّمة لا المفهوم الذهني للربا، ولكن الملاحظ في هذه القضيَّة هو أنَّه قد حدِّدت كميَّةُ الموضوع، فجميعُ أفراده وكلُّ مصاديقه، قد حُكِمَ عليها بذلك الحكم أعني التحريم.
ب - قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} فالرهينة قد استوعبت كلَّ النفوس بلا استثناءٍ في البين فإذاً هي مُسوَّرة، ولذلك جاز الاستثناء بعد ذلك حيث قال تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ}.
ج - (لا شيء من الكذب بنافع)
وهي أيضاً محصورة فكلُّ أفراد الكذب محكومٌ عليها بذلك الحكم.
ثمَّ:
إنَّك مع التوجُّه إلى الأمثلة تلاحظ أنَّ موضوع القضايا المذكورة كليٌّ ونعني بذلك أنَّ الحكم سواء السلبي أو الإيجابي، لم يتحدَّد بعددٍ من أفراد الموضوع، بل قد شمل كافة الأفراد، ومن هنا يُطلق على مثل هذه القضايا (كُليَّة) وذلك باعتبار عدد أفراد الموضوع، وهذا غير المصطلح الأوَّل للكلِّي في مقابل الشخصي وقد مرَّ.
ومن أمثلة القضيَّة المحصورة الكلِّية:
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وقوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}
وقوله: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)، (لا شك لكثير الشك).
أمثلة الجزئيَّة:
أ - قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}:
فالقضيَّة محصورة لأنَّ الشكور رغم كونه مفهوماً كليّاً، إلاّ أنَّه قد حدِّدَ وحوصِرَ وذلك بذكر كلمة (قليل) التي تعني البعض.
ب - (بعض المسلمين ليسوا بمؤمنين):
وهذه القضيَّة محصورة، لأنَّ موضوعها - أعني المسلمين - كليٌ ليس بجزئي، إلاَّ أن الحكم فيها قد ورد على بعض أفراد الموضوع لا كلِّها.
تنبيهات:
الأول: عندما تراعى كلٌّ من كم القضيَّة المحصورة وكَيْفها، فسوف تنقسم إلى أربعة أقسام:
الموجبة الكلية، السالبة الكلية، الموجبة الجزئية، السالبة الجزئية.
وكل قسم من هذه الأقسام له سور مخصوص به والمقصود من السور هو الكلمة التي تحدد الكلية أو الجزئية.
فسور الموجبة الكلية (كل): كل، جميع، عامة، كافة، ألف لام الاستغراق إلى غيرها من الألفاظ التي تدل على ثبوت المحمول لجميع أفراد الموضوع.
وسور السالبة الكلية (لا): لا شيء، لا واحد، أو النكرة في سياق النفي.
وسور الموجبة الجزئية (ع): بعض، واحد، كثير، قليل، ربَّما، وقَلَّما إلى غير ذلك من الكلمات الدالة على ذلك في جميع اللغات.
وسور السالبة الجزئية (س): ليس بعض، أو بعض... ليس كقولك: بعض الإنسان ليس بشاعر، أو ليس كلّ كقولك: ليس كل إنسان شاعر وغيره.
الثاني: القضايا الشخصية والطبيعية والمُهملة لا اعتبار لها في المنطق، فأمّا القضايا الشخصية فلأنَّها مخصوصة، وأبحاث المنطق تتركَّز على القوانين العامة.
وأمّا القضايا الطبيعية فلأنَّها بحكم الشخصية، وذلك لأن الحكم فيها لا يشتمل على تقنين قاعدة عامة، تطبَّق على الأفراد، بل الحكم وارد على نفس المفهوم بما هو، من غير أن يكون له مساس بالأفراد. فلو قلتَ: الإنسان نوعٌ، فقد ورد الحكم على المصداق الذهني للإنسان، فصارت القضيَّة كالشخصية لأنَّ المصداق الذهني متأطِّر بالذهن فلا استيعاب له أصلاً.
وأمّا المهملة فهي رغم حكايتها عن المصاديق العينيَّة الواقعة في الخارج، إلا أنَّه لا قيمة لها، لأنَّه لا يُدرى أكلِّية هي أم جزئيَّة، فهي على أيِّ حال تعادل المحصورة الجزئية، فيمكن الاستغناء عنها بالمحصورة الجزئية.