(مرج
البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يخرج منهما
اللؤلؤ والمرجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن،
الآيات: 19 ـ 23). الماء العذب الفرات، والماء المالح الأُجاج، لا
يختلطان:
ومن الآيات الإلهية الباهرة، والشواهد
الربانية الكبرى، الدالة على قدرته المطلقة، هي نعمه وآلائه المتمثلة بوجود البحار
المالحة والأنهار العذبة التي تشكل بمجموعها ثلاثة أرباع سطح الأرض الوسيعة. وترتبط
البحار فيما بينها، وتتصل الأنهار مع بعضها الآخر دون أن يحصل طغياناً من أحدهما
على الآخر بصورة يسلبه فيه طعمه، فلا المياه المالحة تكتسح الحلوة فتصيّرها مالحة،
ولا المياهُ العذبة تغلب المالحة فتحيلها عذبة المذاق. والآية (مرج
البحرين يلتقيان)
تشتمل على عدة معانٍ محتملة نذكر منها:ـ
1 ـ الاحتمال الأول: وهنا يكون معنى
الآية الكريمة هو أن الله تعالى جعل البحرين (العذب والمالح) يلتصقان، واستدلالنا
على أن المقصود من كلمة (البحرين) هما البحر المالح والبحر العذب يعود إلى قوله
تعالى (وهو
الذي مرج البحرين، هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج، وجعل بينهما برزخاً وحجراً
محجوراً) (سورة الفرقان، الآية: 53). أما معنى قوله
(بينهما برزخ لا يبغيان) فهو أنه سبحانه قد جعل بين البحرين حائلاً ومانعاً وحاجزاً
بيد قدرته يحول دون أن يطغى أحد البحرين على الآخر فيسلبه صفته.
2 ـ
الاحتمال الثاني: أن تكون كلمة (البحرين) التي صرحت بها الآية قد قُصد بها بحري
الروم وفارس، إذ إن هذين البرين يتصلان مع أحدهما
الآخر دون أن يحصل الطغيان من أحدهما على الثاني فيغلبه. ومهما يكن الاحتمال فان
المعنى يقصد به عدم حصول الطغيان من أحد البحار على ما سواه، والشواهد المؤكدة على
هذه الحقيقة كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال، نهري دجلة والفرات ونهر الكارون،
فهذه الأنهار الثلاثة العذبة تصب في الخليج الفارسي، ورغم ان مستوى سطح هذه الأنهار
لا يختلف عن مستوى سطح البحر، لكننا نجد أن مياههن حلوة عذبة، وقد اتصلت بالبحر
المالح ولكن دون أن يطغى الماء المالح عليهن فيجعلهن مالحات، ولم يتفق العكس أيضاً،
والأعجب من ذلك أن حصول المد والجزر البحري وانخفاض منسوب المياه وزيادتها تبعاً
لتلك الظاهرة البحرية لم يجعل طغيان الماء المالح على العذب، أو العذب على المالح
سبيلاً.
ولا تبغي البحار على اليابسات فتغرقهن:
وقد يصل عمق بعض البحار المحيطات إلى
ستة آلاف قامة بحرية، مع أنه (على ما يقال) أن مياه البحار والمحيطات تتأرجح في
حركة دائمة، ولعلّها تؤدي أحياناً إلى بروز أمواجْ عاتية هائلة تضاهي في عظمتها
الجبال الشامخات التي تؤدي إلى تحريك رمال القاع فيتلّون ماء سطح البحر بلون رماله
من شدة هيجان واضطراب البحر المخيف، وقد وصف البحارة وملاحوا السفن حالة هيجان
البحر بحالة الجنون عندما تصطبغ أمواج البحر بلون رمال القاع.
ولما كانت البحار والمحيطات تغطي ثلاثة
أرباع سطح الأرض، فإن هيجان هذه البحار والمحيطات مع وجود قيعانها السحيقة، فكان
مما لا بدّ به ان تكتسح المياهُ سطح الأرض اليابس، ولكن هذا الأمر لم يحصل لوجود يد
القدرة الإلهية التي حالت وتحول دون ذلك. وعلى هذا الأساس قال بعض المفسرين ان
المقصود من كلمة (لا يبغيان) لا تعني انهما لا يطغيان على أنفسهما، وانما عنت ان
البحار الحلوة والمالحة، أو بحري الروم وفارس لا يبغيان على سطح الأرض فيغرقه. ومن
كل ما سبق نخلص إلى أن تفسير كلمة (لا يبغيان) له صورتان.
الأولى:
وهو أن لا يبغي أحدهما على الآخر فيكتسحه.
الثاني:
انهما لا يبغيان سوية على سطح الأرض فيغرقانه.
ولعل ما يؤيد المعنى الثاني في حقيقته
هو مشاهداتنا الكثيرة لظاهرة المد والجزر عندما تتقدم أمواج البحر لترتطم بسواحل
البحار ثم تعود ثانية على أدراجها من حيث أتت، أو مشاهداتنا لحصول حوادث السيول
المدمّرة للأراضي والبنايات، فلو حصل ان طغت البحار على السواحل والمدن والأراضي
لأدركنا معنى الطوفان والغرق الذي سينجم عن ذلك، ولعلّ ما نشهده أو نسمع به من
تنفيس بعض البحار أو الأنهار عن غضبها وثورتها باغراق محدود لبعض الشواطئ والسواحل
(كما يحصل في سواحل شبه القارة الهندية) هو آية إلهية تذكر الناس بعظم العافية بعد
البلاء الذي لا يلبث أن يزول وقد اكتسح شيئاً من الأراضي والأبنية. وأزهق عدداً من
النفوس، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الكثير من الجزر التي تتوسط البحار والمحيطات
(كما في أندونيسيا التي تتشكل من اكثر من ألف جزيرة كبيرة وصغيرة معمورة) لم يطغ
عليهن البحر، على حد علمنا.
الحائل بين الماء المالح والعذب:
إذاً الحالة التي نألفها في حياتنا في
البحار والمحيطات وكبار الأنهار هي حالة انعدام البغي والطغيان والغلبة على بعضها
الآخر، أو على يابس الأرض، فنجد الأنهار العذبة تمتد جراياناً لعدة فراسخ دون أن
يطال عذوبة مائها طعم التبدل والتغير، ثم يأخذ طعم الماء في ذات هذه الأنهار
بالملوحة في مكان معين من النهر ليمتد جرياناً إلى مسافات أخر، أما المنطقة التي
يحصل التباين فيها بين طعم الماء (ملوحة وعذوبة) نجدها تشتمل على وجود الطعمين،
ولعل هذا هو الحائل الذي يسميه القرآن الكريم بالبرزخ الذي تتجسد فيه القدرة
الإلهية الحائلة بين البحرين طغياناً، ولذلك سميت الفترة الفاصلة بين عالمي الدنيا
والآخرة (برزخاً) وهي الفترة الممتدة من ساعة الموت وحتى البعث.
العيون العذبة تتوسط البحار المالحة:
وعادة ما تكون مياه البحار مالحة، السبب
في ذلك لكي يبقي الباري تعالى على امكانية حياة الكائنات ودون حصول حالة التعفن
الناشئة عن أجساد الحيوانات الميتة بعد تفسّخها، وعن كيفية ظهور الملوحة في طعم
مياه البحار ذكر المختصون عدة عوامل أساسية في ذلك أحدها وجود الجبال الملحية في
قعر المحيطات والبحار التي تعطي لمياه البحار هذا الطعم المالح. ورغم ان ماء البحار
والمحيطات مالح فإنه في بعض الجبال الموجودة في قيعان تلك البحار تنبثق عيون
وينابيع عذبة تتشكل في وسط البحار المالحة، وكثيراً ما يرتادها الغواصون عندما
يضربهم العطش، ليطفئوا من مائها نيران العطش المستعرة.
ولقد سمعت ان البريطانيين قد اكتشفوا
عيون ماء عذبة في سواحل البحر المحيط بالبحرين، وقد أسسوا لها شبكات من الأنابيب
لإسالة مياهها العذبة إلى الأراضي البحرينية(1).
البحار نعمة، فلا تكفرانها:
(فبأي آلاء ربكما تكذبّان) أي
فبأي من نعم ربكما تجحدان أيها الثقلان، فهذان البحران (العذب الفرات والمالح
الأُجاج) اللذان انعم الله تعالى بهما عليكما قد جعلهما لا يطغى أحدهما على الآخر،
ولا يبغيان على الأرض فيغرقانها، ألا تجدانهما يشهدان بحكمة الله وقدرته المطلقة؟،
إذاً لم تعميان عن رؤية هذا البرزخ الذي اختطّته يد القدرة الإلهية فحالت دون أن
يبغي أحدهما على الآخر؟! فيا حسرة على العباد الذين يرون كل هذه الألطاف والعنايات
الربانية، ويشاهدون جميع أشكال الآلاء والنعم والأفضال الإلهية التي فاقت حد الوصف
والحصر، ثم تزداد غفلتهم ويكثر عَمَهَهُم دون أن تزداد معرفتهم بالله أو أن يستحكم
الأيمان في قلوبهم.
(يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان):
ثم يخرج المولى (عز وجل) من هذين
البحرين، الدر الصغار والكبار آية عظيمة من آياته الكثيرة، وكما نعرف أن الدرّ
بشكليه اللؤلؤ أو المرجان إنمّا يتم استخراجه من باطن البحار المالحة كما هو
المعهود في ذلك، بينما نرى قوله تعالى (يخرج منهما)
تعني ان عملية استخراج اللؤلؤ والمرجان إنما تحصل من كلا البحرين (المالح والعذب)،
ولتوضيح ذلك نذكر أهم الوجوه المقبولة في بيان هذا الأمر:
إن المشهور بين الغواصين أن الأماكن
التي يكثر فيها صيد اللؤلؤ، هي تلك التي يتصل فيها الماء العذب بالماء المالح، وقد
ثبت مؤخراً بواسطة الاكتشافات الحديثة ان اللؤلؤ والمرجان لا يقتصر وجودهما على
المياه المالحة، فقد ذكر المفسر الطنطاوي في تفسيره ما مفاده، أنه قد تم بالفعل
استخراج الدر من المياه الحلوة الواقعة في سواحل أميركا والصين، وعلى هذا يكون معنى
الآية ان الله تعالى يخرج اللؤلؤ والمرجان من المياه المالحة (كما هو معروف) ومن
المياه العذبة أيضاً كما دلت على ذلك الاكتشافات والتحقيقات العلمية الحديثة.
بحر النبوة وبحر الولاية:
وعن باطن وتأويل قوله تعالى
(مرج
البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان* يخرج منهما
اللؤلؤ والمرجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان)
فقد ذكر العلماء والمفسرون والمحدثون من الخاصة، وبعض مفسري العامة أيضاً، مصاديق
لهذه الآيات المباركة، فقد رُوي عن الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى
(مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان)
أنه قال: علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه، وقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
قال (ع): الحسن والحسين (ع). وقد ذكر صاحب مجمع البيان ان (البحرين) علي وفاطمة
(ع)، (وبينهما برزخ)
محمد (ص) و (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
الحسن والحسين (ع).
إذاً يكون معنى قوله تعالى
(مرج
البحرين يلتقيان) من
حيث التأويل هو التقاء مجرى النبوة والإمامة، يجريان العصمة والولاية، التقاؤهما في
زواج الإمام أمير المؤمنين (ع) من فاطمة الزهراء (ع)، ولمّا التقى بحر النبوة ببحر
الإمامة، بحر الولاية الإلهية مع بحر الطهارة النبوية، بحر الوفاء ببحر الحياء، بحر
الخساء ببحر الطهارة واتصّلا، كان (بينهما برزخ) أي
محمد (ص) لأنه هو واسطة الاتصال بين هذين البحرين، (لا
يبغيان)
ولا يبغي أحد هذين البحرين على الآخر، ولا يتمرّد عليه، فعلي وفاطمة روحان في جسد
واحد. لقاء علي مع فاطمة كان (كما يعرف ذلك الكثيرون) حديثاً تناقلته الألسن في كل
مكان، ففاطمة حينما لم تطلب لنفسها شيئاً من علي (ع) فيعجز عن الإتيان به وإذّاك
تلوح على وجهه الشريف قسمات الخجل والاستحياء، لذلك تحملت وصبرت في دار علي (ع) إلى
أن طلبت منه أن يأتيها بحلي، (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
فإذا ينبثق عنهما الدر، الحسن والحسين (ع).
يقول الشاعر الإيراني وصال الشيرازي في
تصوير هذه اللّوحة الرائعة:
نه مرجان جون حسن يابم، نه لؤلؤچون حسين جود
لما ألفيت مرجاناً كالحسن، ولا لؤلؤاً كالحسين
|
| كسنم گر غوص بحرين نبوت باولايت را
ولو أني سبرت الغور في بحر النبوة والولاية
|
1.تزامن تفسير المؤلف(رض) لهذه السورة الكريمة مع وجود العهد الاستعماري
البريطاني للبحرين قبل اكثر من 25 عاماً، ولذلك أشار سماحته إلى هذا الأمر. لذا
اقتضى التنويه.