الفقه والاخلاق ( 2 ) أ. ابراهيم الحسى
2 - موضوع علم الاخلاق
لكل علم موضوع، وموضوع علم الاخلاق هو روح الانسان ونفسه الناطقة، من حيث قابليتها على الاتصاف بالصفات والخصائص الحسنة او السيئة((49)).
بعبارة اخرى، يمكن القول: ان موضوع علم الاخلاق، هو«فعل الانسان وسلوكه العملي»((50)). وانطلاقا من قاعدة ان شرف كل علم يكمن في شرف موضوعه والغاية المرجوة منه، فان علم الاخلاق يعد من اشرف العلوم((51)). ومرد ذلك شان الانسان ومكانته، فالانسان من بين الموجودات جميعها هو سيدها واكرمها في عالم الوجود، وانسانية الانسان تكمن في روحه، التي تعد موضوع علم الاخلاق.
3 - هدف علم الاخلاق
يتمثل هدف الاخلاق، في المنظور الاسلامي، في سعادة الانسان وكماله الابدي، اي بتقربه الى الله. فالغاية القصوى للسعادة والمرتبة الاخيرة فيها تتمثل في تشبه الانسان في صفاته وخلقه بالحق سبحانه وصفاته((52))، انطلاقا من ان الله سبحانه هو النقطة المركزية التي تتجمع فيها الصفات المتعالية كافة: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الاسراء/110]. ومغزى الاخلاق الاسلامية، هو الاتصاف بهذه الصفات العليا السامية، والتخلق باخلاق الله، والصيرورة بصبغته سبحانه، وهذا على وجه الدقة هو معنى التقرب الى الله، وتبوؤ مقام الخلافة الالهية الرفيع.
توضيح : تنقسم الفلسفة، او الحكمة، منذ القديم، الى قسمين هما: 1) الحكمة النظرية 2) الحكمة العملية
والحكمة النظرية تعني العلم بالاشياء كما هي او كما ستكون. فهناك حقائق مستقلة عن وجود الانسان وعدم وجوده، يكمن كمال الانسان بمعرفتها، مثل البحوث العقيدية في التوحيد والنبوة والمعاد.
اما الحكمة العملية التي تمثل الاخلاق احدى شعبها، فهي عبارة عن «علم تدبير الحياة والمعاش» او «العلم بكيف ينبغي ان تكون الحياة والمعاش».
تاسيسا على التمييز السالف، تصير الحكمة العملية عبارة عن العلم ب «تكاليف الانسان ووظائفه»، ما يعني وجود اصل موضوعي تم الانطلاق منه، يفيد بوجود مجموعة من التكاليف والمسؤوليات الواقعة على عاتق الانسان. يتركز البحث في الحكمة العملية على دائرة «ما ينبغي» و«ما لا ينبغي» فعله، و«ما ربما» و«ما لا ربما» يكون، في حين ينصب البحث في الحكمة النظرية على دائرة «ما موجود» و«ما ليس بموجود».
وبذلك يصح القول : ان الاخلاق تريد ان تجيب الانسان عن سؤال: ما هي الحياة الصالحة للانسان؟ ومن ثم يدخل في مقومات الفعل الاخلاقي مسالة: «كيف ينبغي للانسان ان يعيش حياة مقرونة بالقيم، وبما هو مقدس ومتعال».
وفي السياق نفسه، يكون التوفر على القيم والتحلي بالتفوق على مستوى الفعل العادي، هو من خصائص «الفعل الاخلاقي».
فالاخلاق تمنحنا قواعد لتنظيم كيفية الحياة من زاويتين ترتبطان بطبائع الانسان وملكاته، هما: زاوية «طبيعة السلوك وكيفيته»، وزاوية «كيف ينبغي للانسان ان يكون»((53)).
4 - منابع القواعد الاخلاقية
اذا اردنا ان لا نطيل الكلام، ونغض النظر عن البحوث النقدية التي تتصل بهذه الدائرة من البحث، يمكن القول: ان الانسان قادر، من خلال جبلته ووجدانه وبنيته التكوينية، على ان يميزبين الحسن والقبيح، وان الله سبحانه الهمه هذه القابلية: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس/8]. نسجل هذه الحصيلة انطلاقا من ايماننا بدور العقل الذي يستطيع عبر فطرته وتكوينه الخاص ان يصل الى القواعد اللازمة في الحياة، على ما توفر علماؤنا على دراسته في بحث «المستقلات العقلية» من مباحث اصول الفقه. بيد ان الاحكام التي يصل اليها العقل هي احكام كلية، اضافة الى ان قدرات العقل تنوء بالعجز، وبخاصة في مجال تحديد المصاديق على نحو دقيق، كما في دائرة تشخيص موجبات السعادة والشقاء، وما يدخل في نطاق المصالح والمفاسد الاخروية. على هذا يرشدنا عجز العقل والنقص الذي تتصف به احكامه في الموارد كافة، الى ان سبيل السعادة يكمن بالتوسل بمصادر الوحي واتباع ما جاء به الرسول الاعظم(ص) واهل بيته والانبياء العظام(ع).
فالله، سبحانه، هو مصدر الفيض، وهو الخير المطلق، وهو مبدا العلم والحكمة المطلقين، والعقل الانساني من جهته عاجزعن ان يدرك هذا الفيض والخير والحكمة ادراكا كاملا: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الاسراء/85]، ومن ثم ينبغي ان نمد يد الحاجة الى تعليمات انبيائه وما جاءت به رسله، لكي نتوفر على المعرفة التفصيلية والمصداقية الدقيقة الكاملة: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة/216]. من هذه الزاوية، تحتاج الاخلاق الى مصدر اعلى من العقل، ويكون المنبثق الاساسي لها هو قوة الحب وجذبة الاطهارالذين لهم الاهلية واستعداد ادراك الاوامر الالهية، وهذا نفسه هو الذي نطلق عليه اسم «الاخلاق الدينية».
ان اسلوب الاشراق الاخلاقي((54)) والسلوك العرفاني لا يمكن ان يعبر عن منهج ثابت ومستقر وطريقة تبعث على الثقة والاطمئنان، ما لم يستند الى الدين وتكون اصوله ومرتكزاته مستمدة من الشريعة الاسلامية، وخاضعة الى الاحكام الفقهية والقواعد الدينية((55))، على ما سياتينا عنه الحديث مفصلا.
على ضوء ما مر، ستكون منابع القواعد الاخلاقية، ثلاثة امور هي:
1 - كتاب الله.
2 - سنة المعصومين(ع).
3 - العقل والفطرة((56)).
ثالثا - نقاط الاشتراك والافتراق بين الفقه والاخلاق
أ- منزلة علم الفقه والاخلاق من حيث علاقة احدهما بالاخر
يوجد، على صعيد هذا الموضوع، اتجاهان: الاتجاه السلبي والاتجاه الايجابي.
1) الاتجاه السلبي
هذا الاتجاه، باهماله لاداءات الفقه ومجالات عمله وما ينهض به، يخفض من شان علم الفقه والمنتمين اليه (الفقهاء) ويعرض به وبهم، ومن ثم يركز على تفارق هذين العلمين وانفصالهما.وفي ما ياتي نمر ببعض المواقف التي يضمها هذا الاتجاه من خلال النقاط الاتية:
الصوفية
يقول الغزالي (المتوفى سنة 505 هـ) والفيض محسن الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ)، في كتاب «ذم الغرور»: «المتصوفة: ومااغلب الغرور عليهم، والمغترون منهم فرق كثيرة... وفرقة وقعت في الاباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الاحكام وسووابين الحلال والحرام، فبعضهم يزعم ان الله مستغن عن عملي فلم اتعب نفسي! وبعضهم يقول: قد كلفوا الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا... وبعضهم يقول: الاعمال بالجوارح لا وزن لها، وانما النظر الى القلوب وقلوبنا والهة الى حب الله، وواصلة الى معرفة الله» ((57)).
الملامتية
يذكر ابو حامد، في «احياء العلوم» والفيض الكاشاني في «المحجة البيضاء» منهاج الملامتية واسلوبهم في التربية والبناء،وينقدانه، ومن ذلك قولهما: «واما من حيث العمل، فاسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة افعال يلام عليها، حتى يسقط من اعين الخلق... وهذا هو منهاج الملامتية، اذ اقتحمواالفواحش في صورتها ليسقطوا انفسهم من اعين الناس، فيسلموا من آفة الجاه. وهذا غير جائز لمن يقتدى به، فانه يوهن الدين في قلوب المسلمين، واما الذي لا يقتدى به فلايجوز له ان يقدم على محظور لاجل ذلك، بل له ان يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس»((58)).
ثم ذكرا بعد ذلك ما يفيد بتصحيح عمل بعض الزهاد والاتقياء لقطع الجاه والسقوط من اعين الخلق، ونقلاه على نحوالتسامح، من ذلك ما قام به بعضهم من تناول شراب حلال في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به انه يشرب الخمر، فيسقط من الاعين، وعقبا عليه بالقول: «وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه، الا ان ارباب الاحوال ربما يعالجون انفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما راوا اصلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير كما فعل بعضهم، فانه عرف بالزهد فاقبل الناس عليه، فدخل حماما ولبس ثوب غيره وخرج ووقف في الطريق حتى عرفوه، فاخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب، وقالوا: انه طرار [لص] وهجروه»((59)).
موقف الغزالي
يهاجم الغزالي الفقه والفقهاء في مواضع كثيرة من كتابه «احياء علوم الدين»، ويسوق لذلك ادلة مختلفة يمكن استعراضها كما ياتي:
1 - الفقه علم دنيوي والفقهاء علماء الدنيا
ينقسم العلم، عند ابي حامد، الى محمود ومذموم، ثم يقسم المحمود الى واجب عيني وواجب كفائي. وفي صدد تعيينه للعلوم التي ينبغي تعلمها على نحو الواجب الكفائي، يعودلتقسيم العلوم الى شرعية وغير شرعية. ويعني بالعلوم الشرعية ما لا سبيل اليه من قبل العقل والتجربة، بل هي ما استفيد من الانبياء وتم تعلمه منهم وفي مدرستهم، والعلوم الشرعية هذه جميعها محمودة، الا ما قد يلتبس مما يظن بانها شرعية،وعندئذ تكون مذمومة.
يواصل الغزالي تقسيماته للعلوم، فيذكر ان العلوم الشرعية على اربعة اضرب هي: الاصول، والفروع، والمقدمات والمتممات. الاصول بدورها اربعة، هي: كتاب الله وسنة نبيه واجماع الامة وآثار الصحابة. اما الفروع فهي تفصيلات مستمدة من فهم الاصول بمعان تنبهت لها العقول فاتسع بسببها الفهم، ويتم تناولها بالقياسات العقلية والفقهية وبقية موازين الاستنباط. ثم يذكر ان الفروع على ضربين ايضا: احدهما يتعلق بمصالح الدنيا وتحويه كتب الفقه، والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا،والاخر يتعلق بمصالح الاخرة، وهو علم احوال القلب واخلاقه، والجوارح في عباداتها وعاداتها((60)).
لقد دأب الغزالي، في مواضع متعددة، من كتابه «احياء علوم الدين»، على نعت الفقه بانه علم دنيوي، وعلى وصف الفقهاءبانهم «علماء الدنيا»((61)).
2 - الاكتفاء بالفقه والغفلة عن الاخلاق
ذكر ابو حامد، في كتاب «المراقبة والمحاسبة»، واصفا اوضاع عصره: لا احد يقبل في هذا العصر على معرفة آفات الاعمال،بل هجر الناس كافة هذه العلوم، وتوجهوا للفصل في الخصومات الناشئة عن الشهوات. يقولون: ان هذا هو الفقه،وقد اخرجوا العلم بالافات الذي يعد الفقه الديني الحقيقي، من زمرة العلوم، واستغرقوا تماما في فقه الدنيا. والحال اذا كان ثم حسن في فقه الدنيا، فهو تطهيره القلب من العناصر الاجنبية ومن الغفلة، لكي يعكف على فقه الدين. ففقه الدنيا انما يدخل في عداد العلوم الدينية، بوساطة هذا الفقه الاخر((62)).
لقد هاجم، في موضع آخر وبعنف، الفقهاء الذين خصصواالتفقه بالدين بمعرفة الفروع واكتفوا بالعلم بالفتوى في باب المعاملات الدنيوية، وقد ظنوا ان المراد من التفقه في قوله سبحانه: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا) هو محض تعلم فقه الفروع، وتوهموا ان ما يحصل به الانذاروالتخويف هو هذا الفقه المتداول، ما صار ذلك باعثا لاهمالهم عمليا دواعي تهذيب النفس والاهتمام بالسلوك الاخلاقي، وتنكبهم نظريا عن تعلم علم الاخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الاعمال، لايمانهم بافضلية علم الفقه وعرضه بوصفه اسمى من بقية العلوم الدينية. لم يكتف الغزالي بمهاجمة هذا الضرب من الفقهاء في ما ذهبوا اليه، وانما ذكر ان هؤلاء هم في زمرة المغرورين والمحجوبين((63))، بل ذهب الى ان جميع هؤلاء الفقهاء شغلوا انفسهم بالواجب الكفائي، وغفلوا عن الواجب العيني المتمثل باصلاح انفسهم((64))!
3 - العناية بالظاهر بدلا من الباطن
ينظر ابو حامد الغزالي الى الفقه بوصفه ضرورة ناشئة من الخصومات والشهوات في مضمار الحياة الانسانية، ما يقتضي وجود السلطان وضبطه الناس بقانون السياسة لتنتظم امورهم وتهدا نزاعاتهم. وما دام السلطان بحاجة الى قانون واحكام في ممارسة هذه المهمة، وهو ما ينهض به الفقه في توفيره للاحكام التي تفصل في الخصومات، فقد صار الفقيه معلم السلطان ومرشده الى طرق سياسة الخلق لتنتظم امور دنياهم في نظر الغزالي. على ضوء هذه الرؤية، لو ساد الوئام الناس وانبسطت بينهم العدالة في الحياة، لانقطعت الخصومات، ولم تعد هناك حاجة الى الفقهاء، وبحسب تعبيره: «فلو تناولوها (الدنيا) بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء».
يتبع ...