التواضع السيد عقيل الحسيني
وفاءأ للوعد الذي قطعته على نفسي تجاه الاخوة الافاضل- في المقالة السابقة- بأن يكون موضوع مقالة هذا العدد عن التواضع رغبة مني في اتمام الفائدة التي رجوتها لي ولاخوتي المؤمنين من المقالة السابقة حيث ان تمامية الانتفاع والاستفادة من الحديث عن الكبر وآثاره وسبل علاجه تستلزم اتباعه واردافه بالحديث عن التواضع وفضائله وسبل اكتسابه لان التواضع والكبر ضدان والضد يؤول بالضرورة الى الكلام في ضدة المقابل له ، ولعل هذا هو السبب الذي يجعلنا كثيراً ما نجد ذكر احدهما مقترن بذكر الآخر في الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة.
وعليه اقول مستعيناً بالله ومسترشداً.
التواضع : هو مجانبة وترك الترفع عما لا ضعة ولا مهانة فيه على الانسان لا عقلاً ولا شرعاً.
والتواضع على وزن التغافل والتجاهل فكما انهما بمعنى تشبه الشخص بالغافل او الجاهل وليس في واقعه كذلك، فان التواضع معناه ان يجعل المرء نفسه اقل منزلة او رتبة من المقابل حتى وان كان في واقع الامر ليس كذلك التزاماً منه بالخلق الكريم والسلوك النبيل وطلباً لرضا سيده ومولاه ليس إلا.
وانما عرفنا التواضع بذلك لان ترفع الانسان عما فيه الضعة والمهانة لا يعد خلافاً للتواضع بل ان الشرع والعقل كلاهما يحكمان بوجوب تجنيب المرء نفسه كل ما يوجب الذل والصاغر له او يستدعي احتقار وذم الناس اياه فالمولى جل وعلا لا يريد للمؤمن الا العز والوقار في الدنيا والآخرة. والعاقل اللبيب يأبى لنفسه الهوان الذل او الخنوع لمن لايستحق ذلك منه .
واذن ينبغي اولا وقبل كل شي تحديد ما يوجب فعله الضعة والمهانة حقاً وما لا يوجب ، ما يؤدي واقعاً الى الضعة والمهانة وما لا يؤدي ! وهذا انما يتم الوصول اليه ويكون امرا سهلا ومتيسرا بالاستعانة والرجوع الى الشرع وما أمر به او نهى عنه من افعال وجعل ذلك هو المعيار في السلوك والعمل . فان فيه العزة جميعا ًوبه رفعة الانسان وكرامته فان الله سبحانه وتعالى لم يأمر بشيء وفيه ذل أو احتقار ولم ينهى عن شيء وفيه عز وسؤدد هذا هو مقتضى غناه وكماله جل مجده.
وكذلك فان العقل السليم والفطرة النقية دالان على ما يقبح على الانسان اقترافه ويذم فعله ، وما يحسن اتيانه والعمل به.
فاتباع ما يرشدنا اليه كل من الشرع والعقل السليم هو الضابط والمعيار في تعيين ما يؤدي فعله الى الضعة و المهانة وما لا يؤدي. لا ان الضابط والمناط في ذلك الركون الى ما يراه الشخص نفسه او يتوهمه بجهله ويروق له ان يعتقد به .
فان المتكبرمثلا في كثير من الاحيان يكون الباعث له على التكبر توهمه وظنه ان في السلام على الفقير او التقرب الى الضعفاء من الناس ومخالطتهم والتودد اليهم وغير ذلك من الاذعان للحق اذا احتج به عليه أو خدمة نفسه وعدم تكليف الآخرين بخدمته، ضعة ومهانة ، مما يؤول به الى ان يصعر خده ويترفع على غيره فيهلك بذلك نفسه، وكيف لايكون مهلكا لنفسه بذلك والاسلام قد أمر بافشاء السلام ونشره ورغب في التودد للناس ومخالطتهم واعانتهم ودعى الى اتباع الحق وقبوله من اي احد، والمتكبر بتوهمه ذاك واعتماده عليه دون الالتفات الى شرع او عقل حرم نفسه واباد شخصه.
ولكن هنا نكتة يجدر ذكرها وهي انه لابد في كل امر من الاعتدال وعدم التفريط او الافراط.
فان من الواضح ان التواضع لكل احد وان لم يكن ليس اهلاً للتواضع والتكريم يكون باعثاً لمهانة المتواضع ولغطرسة وسفه المتواضَع له.
ولذلك لا يحسن التواضع للأنانين والانتهازيين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلفهم لان التواضع لمثل هؤلاء مدعاة للذل والهوان وتشجيع لهم للأزدياد في عنجهيتهم وتكبرهم.
ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إذا رأيتم المتواضعين من أُمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فان ذلك لهم مذلة وصغار) (1).
وأجاد الشاعر المتنبي حين قال:
اذا انت اكرمت الكريم ملكته *** وان انت اكرمت اللئيم تمردا
فضيلة التواضع
كما هو ديدننا واسلوبنا الذي الزمنا به انفسنا منذُ المقالة الاولى الا وهو الاسترشاد بالنصوص القرآنية والاحاديث الشريفة الواردة عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الاطهار (عليهم السلام) والاهتداء بأقوالهم والاقتداء بسيرتهم (صلوات الله عليهم اجمعين) من اجل الوقوف على حقائق الاخلاق ومعرفة ما للمتحلي بها من اجر وثواب ان كانت اخلاقاً حميدة, ومن جزاء وعقاب ان كانت اخلاقاً لئيمة.فاننا سوف نستعين هنا ايضاً بكل للتعرف على ما للمتواضعين من مقام وشأن عند ربهم سبحانه وما اعد لهم من الاجر والثواب في أخراهم.
فاقول : ناهيك في فضله ان يوصي به المولى سبحانه وتعالى حبيبه وصفيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويأمره به حيث قال عز اسمه: (وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) (2).
اضافة الى ان الآيات التي نهت عن التكبر والعجب بالنفس يمكن حملها على انها تأمر بالتواضع وتحث عليه لانها بمفهومها تدل على ذلك. فيمكن مراجعت تلك الآيات والتأمل فيها.
هذا وقد ورد عن اعظم الناس خًُلقاً وأكمل الكائنات ذاتاً نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وحديث شريف لو تامله كل مسلم يحرص على الفوز بالمقام السامي والمنزلة الرفيعة بحب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) وقر به يوم القيامة لما ترك التواضع قط ولحرص ان تكون جميع حركته وسدته متصفة به حيث قال (صلى الله عليه واله وسلم ) : (ان احبكم الي واقربكم مني يوم القيامة مجلساً احسنكم خلقاً واشدكم تواضعاً)(3).
ومن فضيلته انه جمال العباة وحلاوتها ، كما انه للمتحلين به رفعه ورحمة الله من ربهم , فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لبعض اصحابه ذات مرة : (مالي لا ارى عليكم حلاوة العبادة قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع) (4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك: (ان التواضع لا يزيد العبد الا رفعة فتواضعوا رحمكم الله) (5).
وعن امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: ( ما من احد من ولد آدم الا وناصيته بيد ملك فان تكبر جذبه بناصيته الى الارض وقال له: تواضع وضعك الله وان تواضع جذبه بناصيته ثم قال له ارفع رأسك رفعك الله) (6).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اذا تواضع العبد رفعه الله الى السماء السابعة) (7).
وما جاء عن عيسى (عليه السلام) انه قال : ( طوبى للمتواضعين في الدنيا، هم اصحاب المنابر يوم القيامة) (8).
هذا نزر من الآيات المباركة والاقوال الشريفة عن التواضع وفضله.
اما سيرتهم (صلوات الله عليهم) التي هي لنا منار نستنير بشعاعه وقدوة حسنة نهتدي بنهجها ونسير على دربها فلقد تواترت الروايات والاخبار التي تتحدث عن عظيم تواضعهم وحسن سلوكهم مع الناس فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشد الناس تواضعاً واكثرهم حياءاً إذا دخل منزلاً قعد في ادناه مجلساً واذا ساره احد فلا يُنحِّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي يُنحِّي رأسه، ولا يميز نفسه عن اصحابه في مجلس او في اي شأن من شؤونه حتى ان ابا ذر الغفاري (رضوان الله عليه) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني اصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو) (9).
وقصة سفره (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اصحابه وتقاسمه العمل معهم في اصلاح الشاة لطعامهم وهو السيد المطاع اشهر من ان نذكرها.
وروي انه: (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج الى بئر يغتسل فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول الله وستره به حتى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل فتناول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الثوب وقام يستر حذيفة فأبى حذيفة وقال بأبي وأمي أنت يا رسول الله لا تفعل فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ان يستره بالثوب حتى اغتسل)(10).
ما جاءه (صلوات الله عليه) احد فأشمأز منه او استنكف اياً كان الآتي روي انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطعم فجاء رجل اسود به جدري قد تقشر فجعل لا يجلس الى احد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى جنبه) (11).
كما كان روحي فداه يجالس الفقراء ويواكل المساكين ويخدم نفسه بنفسه ويحمل بضاعته من السوق، وكان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (انه ليعجبني ان يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنئاً لاهله يدفع به الكبر عن نفسه) (12)، حتى انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ولا يزال في مهنة اهله ما دام في بيته وبالجملة فانه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان التواضع ملازماً له في جميع حركاته وسكناته.
وهكذا كان امير المؤمنين (عليه السلام) في تواضعه وسمو اخلاقه حتى قال ضرار عنه (عليه السلام) عندما سأله معاوية ان يصف امير المؤمنين والح عليه ولم يقبل منه الاستعفاء عن ذلك فقال ضرار: (اما لو ابيت إلا ان اصفه فقد كان فينا كأحدنا يدنينا اذا اتيناه ويجيبنا اذا سألناه ويأتينا اذا دعوناه وينبئنا اذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه ايانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، فان تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يعظم اهل الدين ويقرب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله... الى اخر حديثه) (13).
وهكذا كان ائمة الهدى (عليهم السلام) من بعده فان الروايات والاخبار تحدثنا عن صور رائعة وعديدة من تواضعهم وطيب اخلاقهم قل لمثلها نظير كيف لا وهم انوار الهدى وقدوة الورى.
ومن ذلك ما جاء في مناقب ابن شهر آشوب: (من ان الامام الحسين (عليه السلام) مر بمساكين وهم يأكلون كِسراً لهم على كساء فسلم عليهم فدعوه الى طعامهم فجلس معهم، وقال: لولا انه صدقة لأكلت معكم) (14).
وفي الكافي الشريف ذكر في تواضع الامام ابو الحسن الثاني الرضا (عليه السلام) عن احد الرواة قال كنت مع الرضا (عليه السلام) فدعا يوماً بمائدة فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة.
فقال (عليه السلام): ( مه ، ان الرب تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد والجزاء بالاعمال ) (15).
واكتفي بهذا القدر من الحديث عن تواضعهم (صلوات الله عليهم) ومن اراد المزيد فليراجع التراجم التي كتبت عنهم (عليهم السلام) فانه سيجد العجب العجاب.
وفي ذلك عبرة للمعتبر وقدوة للمؤمن المتدبر لكي يترك الكبر ويلتزم التواضع اتباعاً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته المعصومين (عليهم السلام) ويسير على نهجهم وسيرتهم المقدسة فان النجاة والفوز بخير الدنيا والآخرة لا يكون الا بذلك.
اما الحديث عن الامور التي تساعد على اكتساب التواضع والتحلي به فاننا نكتفي بأرجاع القارئ الكريم الى ما ذكرناه في علاج الكبر وطرق التخلص منه فانها نفسها تنفع في اكتساب التواضع.
ومن الله التوفيق والسداد.
الهوامش
1- تنبيه الخواطر ج 1 ص 201.
2- سورة الشعراء/ آية 215.
3- اخلاق اهل البيت ص 36 نقلاً عن قرب الأسناد.
5-4 - تنبيه الخواطر ج 1 ص 201.
6- وسائل الشيعة ج 2 / باب 58/ ص 471/ حديث 10.
7- تنبيه الخواطر ج 1 ص 201.
8- تنبيه الخواطر ج 1 ص 201.
9- اخلاق اهل البيت ص 38.
10- سفينة البحار ج1 ص 416.
11- تنبيه الخواطر ج 1 ص 201.
12- تنبيه الخواطر ج 1 ص 201.
13- اخلاق اهل البيت ص 39.
14- اخلاق اهل البيت ص 39.
15- اخلاق اهل البيت ص 39.
المصدر : شبكة الامامين الحسنين