الإنسان بين الدعاء والمسؤولية
جاء الإسلام كُلاً مترابط الاجزاء، ووحدة عضوية متكاملة المفاهيم، والخطر
كلّ الخطر على تلك المفاهيم أن تؤخذ مجزّأة منفردة، ثمّ يتم تقويمها
والتعامل معها وهي بهذه الصورة المبعثرة .
فالمفهوم في الإسلام لا
يكتمل معناه، ولا تدرك أهدافه، ولا يمكن إعطاء تقويم صحيح له، إلاّ بعد
ربطه بكل ما يتعلّق به من مفاهيم مترابطة معه، متناسقة مع أهدافه، مكمّلة
لوجوده، ضمن صيغة الوحدة الفكرية في الإسلام .
ومن تلك المفاهيم التي أسيء فهمها بسبب اقتلاعها، وافرادها منفصلة عن جسم الوحدة الفكرية، هو مفهوم «الدعاء» .
فقد أثار الكثير من الذين تعاملوا مع هذا المفهوم ـ تعاملاً منفصلاً عن بقيّة مفاهيم الإسلام ـ أثاروا شكوكاً حول الدعاء، منها:
1 ـ
إنّه وسيلة للاتكالية، وتجميد لطاقة الإنسان ، وشلّ نشاطه، وإشاعة لروح
الكسل والخمول، بالاعتماد الغيبي على الله، وعدم ممارسة الإنسان لدوره
وواجبه .
2 ـ إنّ الدعاء دعوة إلى فرض الدور السلبي على حياة الإنسان ،
وتجميد
قوانين الطبيعة والوجود التي تتحكم في الحياة، وفي مصير الإنسان ، وبذلك
ينتهي دور الإنسان التاريخي، بتعليق إنجاز المهام المنوطة بالإنسان على
الله تعالى، مع انسحاب كامل لقوى الإنسان وجهوده في ميدان الممارسة، وإنّ
أمة ترضى بالدعاء ـ بالقول والضراعة ـ بديلاً للجدّ والتفكير والعمل والنشاط، لهي أمة تحكم على نفسها بالفناء والموت العاجل، وتمحو دورها الإنساني ـ بدعائها وضراعتها ـ ذلك ما يقال ويكثر ترديده حول فكرة الدعاء .
إلاّ أنّ الإسلام بوحدة أفكاره ونقاء مفاهيمه، يقوم بأكمله ردّاً حاسماً على هذه الشبه والتخرصات التي يطلقها المتجنّون عليه .
فالإسلام حينما شرّع الدعاء، شرّع العمل كذلك، وبيّن مسؤولية الإنسان
وواجبه المترتب عليه، فقرّر التزامه بإجراء قوانين الوجود، والتطابق مع سنن
الحياة التي أودعها الله في هذا العالم، فما من شيء يتحقق إلاّ ويحتاج الى
سبب، وما من حادث يحدث إلاّ وله محرّك .
فالنتائج لا تنزل من
السماء، وليس معنى الدعاء تعطيل قوانين الوجود، والدخول في دورة سبات
لانهائية، والاكتفاء برفع اليدين الى السماء، وإذا شئنا المزيد من الايضاح
وبيان موقف الإسلام من هذه القضية الخطيرة، فلنقف على رأيه الصريح، وردّه
الواضح على تلك التصوّرات الشاذّة، ولنقرأ فصلا من كتاب «جامع السعادات» للعلامة الشيخ محمد مهدي النراقي ـ أعلى الله مقامه ـ، لما فيه من بحث ونصوص توضّح معنى التوكل ـ في الإسلام ـ سواء في حالة الدعاء، أو في غيره من الحالات، وتبين علاقته بالاسباب الطبيعية .
قال رحمه الله : (الاسباب
التي لا ينافي تحصيلها ومزاولتها للتوكّل هي الاسباب القطعية أو الظنية،
وهي التي يقطع، أو يظن بارتباط المسبّبات بها بتقدير الله ومشيئته،
ارتباطاً مطرداً لا يتخلّف عنها، سواء كانت لجلب نفع أو لدفع ضر منتظر، أو
لازالة آفة واقعة، وذلك كمدّ اليد الى الطعام للوصول إلى فيه، وحمل الزّاد
للسفر، واتخاذ البضاعة للتجارة، والوقاع لحصول الاولاد، وأخذ السلاح للعدو ـ وقاية لمواجهة العدو ـ
والادخار لتجنّب الاضطرار، والتداوي لازالة المرض، والتحرّز عن النوم في
ممر السيل ومسكن السباع وتحت الحائط المائل، وغلق الباب، وعقل البعير، وترك
الطريق الذي يقطع، أو يظنّ وجود السارقين، أو السباع الضارة فيه، وقس
عليها غيرها .
وأما الاسباب الموهومة، كالرقية، والطيرة،
والاستقصاء في دقائق التدبير، وإبداء التمحلات لاجل التبديل والتغيير،
فيبطل بها التوكل) .
وهكذا يتضح لنا أن الدعاء
: وهو طلب عون الله، والتوكّل عليه، لا يعني تعطيل الاسباب، وترك السعي من
قبل الإنسان ، وتجميد نشاطه، واللجوء الى الكسل والخمول بدعوى الاعتماد
على الله، وكما رفض الإسلام تعطيل دور القوانين والاسباب الطبيعية من قبل
الإنسان ، رفض كذلك اللجوء الى الاوهام والخرافات في معالجة المواقف،
وتحصيل الاشياء التي يريد الحصول عليها، لانّها ليست من قوانين الطبيعة،
ولا من أنظمة الوجود التي أودعها الله في هذا العالم، وليس لها أي دور
تأثيري
في سير الحوادث، أو اعطاء النتائج، وقد اعتبر الإسلام تعطيل دور الإنسان ،
وعدم أدائه لواجبه ومسؤوليته، وعدم تسييره للحياة وفق قوانين الطبيعة التي
أودعها الله في الوجود، مخالفة لحكمة الله وإرادته، واعتبر هذا التعطيل
متعارضاً مع إجابة الدعاء، وعقيدة التوكل .
ولكي يكون رأي الإسلام واضحاً في هذا الموضوع، فلنتابع القراءة في كتاب «جامع السعادات» فلنقرأ قول المؤلف ـ رحمه الله ـ :
(إعلم انّ التوكّل لا يبطل بالاسباب المقطوعة والمظنونة مع أنّ الله قادر
على إعطاء المطلوب بدون ذلك، لانّ الله سبحانه ربط المسبّبات بالاسباب،
وأبى أن يجري الاشياء إلاّ بالاسباب، ولذا لما أهمل الاعرابي بعيره، وقال :
توكّلت على الله، قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اعقلها وتوكل) .
وقال الصادق (عليه السلام) : (أوجب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم بالاسباب التي سبّبها بذلك، وأمرهم بذلك) .
قال الله تعالى : (خُذوا حذركم)، وقال في كيفية صلاة الخوف: (فَلْيَأخُذُوا حذْرَهم وأسْلِحَتَهُم)، وقال: (وأعِدُّوا لَهُم ما استَطَعْتُم مِنْ قوّة، وَمِنْ ربَاطِ الخَيْلِ)، وقال لموسى (عليه السلام):(فاسرِ بعبادي ليلاً)، والتحصّن بالليل إختفاءً عن أعين الاعداء دفعاً للضرر .
وفي الاسرائيليات : انّ موسى بن عمران (عليه السلام) اعتلّ بعلَّة فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علّته، فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال: (لا أتداوى حتّى يعافيني الله من غير دواء) فطالت علّته، فأوحى الله إليه: (وعزّتي وجلالي لا أُبرئك حتّى تتداوى بما ذكروه لك)، فقال لهم: (داووني بما ذكرتم)، فداووه فبرئ فأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه: (أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك عليّ، فمن أودع العقاقير منافع الاشياء غيري؟) .
وقد جاء قول الله الحق صريحاً واضحاً للكشف عن هذا المفهوم وتعميقه في نفس الإنسان ، قال تعالى : (وأنْ لَيسَ للانسانِ إلاَّ ما سَعى) .(النجم/ 39)
وورد في الحديث الشريف ما يرادف هذا المعنى، ويؤكد مسؤولية الإنسان، فقد جاء: (العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال)(11) .
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : (إنّ
أصنافا من أمّتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو
على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه، ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته
وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: ربّ
ارزقني، ولا يخرج، ولا يطلب الرّزق،
فيقول الله عزّ وجل له: عبدي ألم
أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت
فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكي لا تكون كلاًّ على أهلك، فان
شئتُ رزقتك، وإن شئت قتَّرت عليك، وأنتَ غيرُ معذور عندي، ورجل رزقه الله
مالاً كثيراً فأنفقه، ثم أقبل يدعو: يا رب ارزقني، فيقول الله عزّ وجلّ:
ألم أرزقك رزقاً واسعاً فهلاّ اقتصدت فيه كما أمرتُك، ولم تُسْرِفْ، وقد
نهيتك عن الاسراف، ورجل يدعو في قطيعة رحم) .
وروى أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً، قال: (كنّا جلوساً عند أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق، إذ أقبل (العلاء بن كامل) فجلس قدَّام أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: ادع الله أن يرزقني في دعة، فقال: لا أدعو لك أطلب كما أمرك الله عزّ وجلّ) .
(وروى كليب الصيداوي، أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال: قلت للصادق: ادع الله عزّ وجلّ لي في الرزق فقد التأثت علي أموري، فأجابني مسرعاً: لا، أخرج فاطلب) .
وإذن فليس بامكان أحد بعد هذا الايضاح أن يقول أنّ الإسلام دعا إلى
الاتكالية والكسل، وعطّل الاسباب والقوانين الطبيعية للحياة، فكلّ ما جاء
في الإسلام دعوة الى الجدّ وممارسة المسؤولية والسير بالحياة وفق قوانين
الطبيعة وسننها التي أودعها الله في هذا العالم .
وعندما نسلم بهذه
الحقيقة الفاعلة في دنيا الإنسان ، يجب أن نسلم أيضاً بأن هناك كثيراً من
الاحداث والوقائع ليس بمقدور الإنسان أن يدرك أسبابها، أو يستطيع حلّها
ومعالجتها، فليس مستنكراً عليه أن يلجأ في هذه الحالة إلى الله سبحانه،
مالك الخلق والامر والقاهر للاسباب والقوانين، فيطلب منه العون على حلّ
أزمته، أو مساعدته على تيسير أسباب الامور وإجرائها .
لذلك كان دعاء المؤمن بالله، الواثق من إجابته ـ كما ورد في الدعاء المأثور ـ :
(يا
مَن تُحَلُّ بهِ عُقَدُ المكارِه، وَيُفْثأ بهِ حَدُّ الشَّدائِد، ويامَن
يُلتَمَس منهُ المخرجُ إلى روح الفَرَج، ذَلَّت لِقُدرَتِك الصّعاب،
وتَسَبَّبَت بلطفِك الاسباب، وَجَرى بِقُدرَتِكَ القَضاء، وَمَضت عَلى
إرادتك الاشياء، فَهِيَ بمشيئتِك دون قولك مؤتمرة، وبارادَتِك دون نَهيك
منزجرة، أنتَ المدعو للمهمّات، وأنت المفزع في الملِمَّات ...) .
وطبيعي أنّ تقبّل هذا المفهوم يحتاج إلى وعي إنساني عميق للكون والطبيعة،
وفهم عقائدي لكيفية سير الحوادث والوقائع على مسرح الحياة للتعرّف على أثر
القوّة والارادة الإلهية في هذا العالم، فنؤمن بأن الخالق للاسباب
والقوانين الطبيعية قادر على أن يغيّر ويبدّل ما يشاء بقدرته، وأن يوفّق
الإنسان بعد عجزه الى اكتشاف السبب الذي يوصله الى تحقيق غايته .
المصدر : كتاب الدعاء تربية وعبادة