الدرس السادس :الاعتراف بالواقع السيئ
- إن غاية خلق الله –عز وجل- لعباده، هو إيصالهم إلى الكمال النهائي الذي يحقق لهم السعادة الأبدية، فقد خلقهم تفضلاً منه تعالى، لا لحاجة منه إليهم -وهو سبحانه الغني المطلق- وإنما لينعموا بفضله وخيره.. خلقهم للبقاء لا للفناء، ويؤيد ذلك هذا الحديث القدسي: (كنت كنزا مخفياً، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأن أعرف).. إن رب العالمين مستغرق في عزه وجلاله وكماله، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، فهو إله وإن لم يعبد من قبل أي مخلوق، وسيأتي يوم القيام وينادي فيه: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟.. وإذا بالسائل هو نفسه المجيب: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.. إن ربا بهذه العظمة والقدرة وبهذه الملكات، ألا يجدر بنا أن لا نلتفت إلى سواه؟!..
فإن بيده كل حاجاتنا وكل ما نريد، وعنده خزائن كل شيء: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}.. ولكنه –تعالى- ينزل بقدر، ولا يعطي إلا عن استحقاق..
ومن الخسران أن يرتبط الإنسان بغير الله تعالى.. أحد العلماء الكبار كان يقول: كم من القبيح أن نرى فقيراً يستجدي فقيرا مثله!.. فالذين في الحياة الدنيا يجعلون عيونهم على الغير وأملهم بالغير، فهؤلاء مساكين، ورب العالمين يقول في شأنهم: (لأقطعن أمل كل مؤمل غيري).. وهذا لا يعني أن الإنسان لا يركن إلى الناس، ولكن عليه أن لا ينسى أن الله –تعالى- هو السبب لكل ذي سبب، وهو سبب من لا سبب له..
- الحمد لله أن وفقنا لأن نفتح قلوب عباده على ذكره تعالى.. ومن المتوقع -إن شاء الله- بعد هذه الأحاديث المباركة، أن نجد من قد غيّر مساره في الحياة، وقد رأيت في هذا العام بعض الوجوه الخاشعة من الذين تأثروا وتابعونا في محرم الماضي، ويبدو -بحمد لله- أن هنالك نفوسا متعطشة للمعاني الإلهية. .ومن أفضل البلاد المناسبة لزرع التكامل النفسي هي البلاد المترفة، التي يصل فيها العبد إلى بغيته، لأن الجميع وصل إلى طريق مسدود، والدنيا تذوقها بجميع ما فيها من اللذائذ، ولم يترك متعة في الحياة إلا وقد ارتكبها.. أحدهم راجعني وقال: بأنه جرب أنواع اللذائذ حتى ملَّها، وما بقيت لذة في هذا الوجود لم يجربها، ولم يصل إلى شيء!.. بل أنه يعيش الاكتئاب، والضيق، والتبرم، وحالة من حالات الملل الباطني.. ومن المعلوم بأن جو الاكتئاب، وأغلب الحالات النفسية المرضية متفشية في الأغنياء أكثر من الفقراء.. فما دام أن البعض قد جرب كل متع الحياة الدنيا حتى الملل، فليبدأ عالماً جديداً، فهو سافر إلى ما سافر، فليبدأ سفرة أخرى، وهذه هي السفرة النهائية!..
- لو التفت الإنسان إلى باطنه ونظر إلى تركيبة نفسه، لاكتشف أن هنالك طفلا في وجوده -فظاهره إنسان ذا شخصية راقية، له مقام ودور مميز في المجتمع، إلا أن واقعه شيء آخر- وهو هذا الذي يدفعه لهذه الحركات والاستمتاعات التي هي دون مستوى الإنسان الراقي الكامل.. إنسان تنازعه نفسه على قطعة حلوى، وإذا به يقطع المسافات لأجل أن يشتريها ويأكلها!..
وعليه، لابد للإنسان أن يحاول تهذيب نفسه وتربيتها، وأن يحاول أن يصعد بها إلى مستوى البلوغ، بحيث لا ترى متاع الدنيا مغرياً كثيراً..
إن الإنسان الذي يدعي أنه في سفر إلى الله تعالى، ويجعل همه تغيير أثاث المنزل، وفي كل سنة لابد أن يغير دابته، ويسعى إلى المتاع الذي لا ضرورة له.. فهذا الإنسان لن يصل إلى شيء، وخاصة في مجال الأخوات المؤمنات، فمن الملاحظ أن البعض منهن لا ينقصها الشوق ولا العمل ولا الزيارات ولا حتى الدخول في الحوزات، ولكن تدور حول حلقة مفرغة، لأن حب الدنيا لا يزال متغلغلاً في الوجود.. فليس المطلوب هو ترك الدنيا، (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء).. والدليل على ذلك هو حالة التأذي عند فقد متاع من متاع الدنيا، فالذي يتعلق قلبه بسبحة أو بخاتم يضيع منه، فهذا الإنسان لن يصل إلى درجة من درجات الكمال.. والقرآن الكريم قد أشار إلى ذلك، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.. ومصداق مد الأعين، النظر يميناً وشمالاً إلى هذه البيوت المترفة، التي البعض من هذه البيوت وبال على أصحابها يوم القيامة؛ لأنه بنى زيادة على حاجته، وبنى من أموال فيها حق الإمام والفقراء والمساكين، فسيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة.. وبعض الأغنياء في الآخرة يتمنى لو أنه كان فقيراً، لأن من خف ماله خف حسابه يوم القيامة..
فإذن الإنسان لابد له من مراقبة سلوك هذا الطفل الذي في وجوده، حتى لا يأتي يوم من الأيام ويتحكم في مملكته هذا الطفل المراهق، الذي لا يعرف إلا الحلوى والطعام والمتع المحللة والمحرمة.. وإذا أصبح مالكاً لمملكة الوجود، فإنه في حالة يرثى لها.. فقبل أن يتحرك الإنسان إلى الله –تعالى- عليه أن يؤدب هذا الطفل، وهذه التعاليم الشرعية من الصيام والحج والجهاد وغيره، من باب تقليص نفوذ هذا الطفل المشاكس في مملكة البدن، وكلما قلصت نشاطه كلما تضخم الجانب الآخر، ألا وهو جانب العقل والهدى في وجود الإنسان..
- إن السفر إلى الله –تعالى- فيه موانع وعقبات وقطاع طرق كثيرون، تواجه الإنسان السائر وتقف في طريقه، ومن هنا ينبغي له أن يعرف عدوه حتى يحذره في مقام العمل.. ومن المعلوم أن أكبر عدو في هذا الطريق هو الشيطان الرجيم، الذي أقسم أن يغوي بني آدم: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}.. وتعبيره تعبير مخيف وضخم، ورب العالمين لو كان يرى أن الشيطان يبالغ وليست له القدرة على ذلك، لعقبه بما يكذب كلامه ويؤكد له أنه دون ذلك، والحال بأن القرآن الكريم لم ينفِ هذا المعنى بل كأنه يقرره!..
إن البعض الذي يخاف من الجن والشبح والسحر وغيرهم، فليخف من الشيطان؛ لأنه حقيقة قائمة حية، هذا الشيء الذي لا ينكر.. ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق).. فكيف يصل الدم إلى كل خلية من خلايا الدم، ولولا ذلك لماتت الخلية، كذلك الشيطان فإنه متغلغل في وجود بني آدم، ويشاركه في كل شيء إذا نسي التسمية: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}..
وهو وجود غريب خفي، وله خبرة آلاف السنين.. فلو أن إنساناً مارس عملاً سنة أو سنتين أو عشرين سنة، تراه يصبح خبيراً بذلك العمل.. فكيف بموجود تمرس في إغواء بني آدم آلاف السنين، وشغله لم يقتصر على المساكين والمستضعفين، بل أنه كان يحاول حتى مع الأنبياء والمرسلين؟!.. وأول ضربة ضربها نجح فيها، ألا وهو أبونا آدم حيث أخرجه من الجنة..
وللعلم هناك نص عجيب مضمونه: بأن الشيطان بلغ مرتبة الوجاهة بين الملائكة، حتى أصبح خطيب الملائكة!.. وكان يمضي آلاف السنين في ركعة أو في سجدة، أضف إلى خطاباته، وعلمه..
يقول الشاعر:
لو كان للعلم من دون التقى شرف *** لكان أشرف خلق الله إبليس
موجود قوي وداهية، وفي أعلى درجات العتو والتكبر إلى درجة مذهلة، وهذا الحديث يكشف لنا مدى تفرعنه وعدائه لبني آدم:
أتى إبليس نوح لما ركب السفينة فقال له نوح: من أنت؟.. قال: أنا إبليس.. قال: فما جاء بك؟.. قال: جئت تسأل ربك: هل لي من توبة؟.. فأوحى الله إليه: أنّ توبته أن يأتي قبر آدم فيسجد له.. قال: أما أنا لم أسجد له حيّاً أسجد له ميتاً؟.. قال فاستكبر وكان من الكافرين..