الدرس الخامس : عقبات السفر
- لاشك أن الاستماع للمواعظ التي تلقى هذه الأيام والليالي في مجالس أهل البيت (ع) -وبالأخص في العشرة الأولى- يختلف عن باقي الأيام والليالي؛ إذ أن معها دفع من عالم الغيب، كالسفينة الشراعية التي تبحر في البحر، ولكن الأمواج والهواء تدفعها إلى الإمام.
ومن الملاحظ -هذه الأيام- وجود حالة العطش لتقبل المعارف والمعاني الإلهية، وهذه ظاهرة غير طبيعية، فالمجالس -بحمد الله- تزداد في كل سنة، والجمهور يزيد بشكل ملفت، وإن هذه -إن شاء الله- من علامات البشرى لظهور إمامنا (عج)، حيث أصبحت القلوب تقبل على أهل البيت (ع) وعلى الإسلام الصحيح.
- قلنا بأننا في حال سفر قهري منذ أن سقطنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئاً، وقد أشار أمير المؤمنين (ع) إلى هذه الحقيقة حين قال: (أوله نطفة قذرة، وآخر جيفة نتنة، وهو فيما بينهما يحمل العَذِرَة).. فهذا هو السفر الظاهري -السير البدني الذي نحن صائرون إليه -حيث يبدأ الإنسان من نطفة، وأما نهايته فجيفة لا تطاق.. وبموازاة هذا السير الأرضي هنالك سير سماوي.. وقد يقول قائل: من أين جئنا بهذا المصطلح؟.. إن القرآن الكريم كله يضج بالدعوة إلى هذا السفر، كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.. فمن الواضح أن الفرار إلى الله أبلغ من السفر، فلو أن إنساناً كان في مبنى يعج بالنيران، فإنه يحتاج إلى فرار وإلا لالتهمته النيران!.. فإذن، نحن في الواقع نحتاج إلى فرار من عالم المادة إلى عالم الملكوت..
وفي آية أخرى يقول تعالى: {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}.. فالسبيل هو الطريق.. وهذه من أروع آيات القرآن الكريم {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}.. ولها عدة وجوه، ومن وجوهها: أن الذي عزم على السفر إلى الله تعالى، فإن رب العالمين يقتصد له السبيل -أي يختصر له المسافات- ومن هنا ورد عن أهل البيت (ع) قولهم: (وإن أفضل زاد الراحل إليك، عزم إرادة يختارك بها).. ولكن المشكلة أننا لم نختر الله عزوجل.. فلابد للإنسان المؤمن أن يأخذ القرار للفرار، وكلما تأخر فإنه هو الخاسر.. فالذي ينام في الطريق، فهو عندما يستيقظ ويمشي، فإنه يصل لأنه على الطريق ولكنه يصل متأخراً.. فكلما عزم على تعجيل هذه الحركة فهو الرابح.. (وإنك لا تحتجب عن خلقك، إلا أن تحجبهم الأعمال دونك).
- قلنا بأن الزاد الأول: هو الزاد العلمي، وأن الإنسان الجاهل السائر على غير هدى لا تزيده كثرة السير إلا بعداً.. وأن الزاد الآخر: هو التقوى، أي أن يعيش الإنسان حالة الخوف من غضب الله عزوجل..
إن أحد مراجع التقليد الذين توفاهم الله عزوجل، وكان معروفا من بين المراجع ببعده الأخلاقي وبكراماته، نقل لي ولده عنه هذه القصة:
أنه في ليلة من الليالي رأى والده يعيش حالة الاضطراب والقلق الشديد، إلى درجة أنه لم يتجرأ أن يسأله عن السبب، إلى أن طرق الباب طارق وقال بأنه طالب علم يريد أن يلتقي بالسيد، ولما خرج وإذا بالسيد متهللاً، وقال: بأنه كان يعيش حالة القلق هل أن إمام زمانه راضٍ عنه أم لا؟..
إن هذا الخوف وهذا الهاجس سلب منه الرقاد والراحة، فهل فكرنا يوماً بأنه هل أن الله عزوجل راضٍ عنا أم لا؟.. هل فكرنا بأنه هل نحن على الجادة المستقيمة؟.. (رحم الله من عرف من أين، وإلى أين، وفي أين)..
نحن إلى أين وصلنا؟.. هذا الرأسمال الذي أخذناه من رب العالمين فيما صرفناه؟.. ورد في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به ).. إن الإنسان -بعض الأوقات- إذا فكر في هذا المجال فإنه سيسلب منه الراحة والنوم، ولكن ليسلب منه النوم ليلة أو ليلتين، وليعش ما يعش من صراع نفسي، ولكنه سيخرج بعدها بقرار.
- من عقبات السفر: التحلل من مظالم العباد..
إن البعض ممن يعطى بعض النفحات الإلهية وتفتح شهيته على العبادة، والصلاة في المسجد، وصلاة الليل؛ فإنه يعطى بعض الهبات، ويعطى شيء من النور، (أشراف أمتي: حملة القرآن، وأصحاب الليل).. وإذا به يأخذه الغرور والتعالي على الخلق، ويقصر في واجباته الأسرية والاجتماعية..
وحاله كما يقول الشاعر:
سقوني شراب الحب ولو سَقوا *** ما سقوني جبال حنين لغنت
إن رب العالمين يعطي الإنسان الذي يجاهد في هذا الطريق جرعة من هذا الشراب الصافي، ولكن أيضاً يطلب منه أن لا يسكر ذلك السكر الذي يذهله عن وظيفته الشرعية.. ومن المعلوم أن النبي الأكرم (ص) من أعظم معجزاته ليس شق القمر فحسب، وإنما مقدرته على التنزل والتعايش مع أهل الدنيا، وهو الذي كان يعيش ما يعيش من عوالم القرب الإلهي، وهو الذي عرج به إلى السماء وكان قاب قوسين أو أدنى من رب العالمين.. وإذا به يهبط إلى الأرض؛ ليعيش بعض المشاكل مع زوجاته، ومع أصحابه، ومع جفاة الجاهلية والأعراب.. وكان يتحمل منهم ما يتحمل، هنا عظمة النبي (ص)..
إن علينا أن ننتبه إلى مكائد الشيطان اللعين، وأن المهم عنده أن يكون الإنسان ماشيا مشي الاعرج، سواءً برجله اليمنى أو برجله اليسرى.. إن البعض قد يعطى بعض النفحات وبعض الجوائز، ولكن -مع الأسف- لا يعلم قدر هذه الجائزة، فيتعالى على الناس، ويتعالى على الزوجة، ويترك واجبه الاجتماعي، يكلم فلا يجيب!.. يسلم عليه فلا يتقن الرد على السلام!.. هو كان صاحب خدمة اجتماعية -يسد ثغراً من ثغور المسلمين، وله نشاط اجتماعي في هداية الخلق- وإذا به غاب عن الأنظار، بحجة إنهاء الختمة الفلانية والورد الكذائي، وأن الناس جهلة وفي ضلال، ويدخلون عليه الظلمة وما شابه ذلك!.. وإذ به يعيش حالة من حالات التفرعن والعلو، وهنا بداية النهاية..
والحال أن المقياس فى الفوز والنجاح هو سيرة أئمتنا (ع) -هؤلاء القمم والذين نحن بحركتنا إلى الله -عزوجل- نحاول أن نجاري هذه القمم ونقترب منها- وما هي أخلاقياتهم، وكيف كانوا رحمة للعالمين!..