الدرس الرابع : اليقظة الروحية مقدمة للخروج على الواقع
- إن علامة قبول العمل: حجاً وعمرة، وصوماً وصلاة، وعزاءً.. ليس الترقب لمنام أو مكاشفة أو نور أو رائحة طيبة، وإنما هو حصول التغير الجذري في الذات، فمن رأى في قلبه اطمئناناً وإعراضاً عن المنكر ورغبة في الطاعة، فليعلم أنه على خير.. وإلا -كما قلنا- فإن الشيطان لا تخيفه هذه الحركات العبادية، وإنما الذي يخيفه هو مجاهدة النفس ومغالبة الهوى..
إن هدفنا من هذه الأحاديث، هو بيان معالم السفر الإلهي، هذا السفر الذي نحن فيه ونحن لا نشعر، أجسامنا وحياتنا في حركة قسرية إلى النهاية، والحال بأن الأرواح على حالها.. قلت لبعض إخواني كلمة قلبتهم وأثرت فيهم: وهي أن البعض صلاته وهو في سن الخمسين والستين، لا تكاد تختلف عن صلاته عندما كان في سن البلوغ، فمنذ يوم بلوغه إلى يوم وفاته صلاته على حد سواء.. ومعنى ذلك أن روحه لم تبلغ، ولا زالت روح طفولية، وأنه لا زال يعيش لا المراهقة بل الطفولة.. وكم من القبيح أن يبلغ الإنسان من العمر ما يبلغ، ويكون له بنين وحفدة، ولكن روحه -التي بها قوام الحساب والخلود- تكون روح غير بالغة..
إننا نرجو للجميع -الذين شاركونا في هذه الليالي والأيام- أن يخرجوا بهذا الجو المبارك، كخروج بشر في لقاء عابر.. والذي نراه في التاريخ أن بشر لم يلتقِ بالإمام موسى بن جعفر (ع) في تلك القضية، وإنما التقى بخادمة رأت الإمام المعصوم، ونقلت له قول الإمام، فقلبته رأساً على عقب.
- من المعلوم أنه لابد للإنسان الذي يريد الحج أو العمرة، أن يتطهر في الميقات وينزع الثياب الدنيوية المخيطة ويلبس ثياب الإحرام؛ ليدخل في الحرم الإلهي الأرضي.. وأن الإنسان المصلي بمجرد أن يكبر تكبيرة الإحرام، فإنه يحرم عليه ما يحرم من منافيات الصلاة.. إن الأمر كذلك بالنسبة لمن يريد السفر إلى الحق -تعالى- والدخول إلى ساحة العز الإلهي، أي أنه لابد أن يكون متطهراً، وهذا التطهر ليس إلا التوبة.. وقد ذكرنا أن من معالم التوبة هذه الحركة الظاهرية: من غسل التوبة ثم صلاة التائبين والاستغفار.
إن الاستغفار هو ورد المؤمن الدائم، وهو بمثابة الصابون والماء الذي يطهر الإنسان من الخبث والدرن ويخلصه من الأمراض، ومن دونه ينتفي تحقق الطهارة والنقاوة الروحية للمؤمن.. ومن المعلوم أن عملية الغسل لا تحتاج إلى نية؛ إذ أن الطهارة حاصلة ومتحققة بمجرد صب الماء على البدن.. إن الإنسان الذي يلتزم بالاستغفار، حتى لو أنه ارتكب ذنباً ثم نسيه، ولم ينوِ الاستغفار من هذا الذنب بعينه، فإن الطهارة متحققة.. ومن المحطات المهمة جداً للاستغفار محطتان في كل يوم وليلة:
المحطة الأولى: بعد صلاة العصر، حيث أنه يستحب للمؤمن الاستغفار سبعين مرة.. ونصيحتي أن لا يستعجل الإنسان القيام من سجادة صلاته، وأن يطيل الجلوس بعد الفرائض -ولو دقائق- ولكن بشرط أن يكون بمقدار شهيته.. وإن كان هو في أول الطريق قد يجلس دقائق، ولكن البعض يصل به الأمر إلى أنه لا يطيق القيام من المصلى؛ لما تأتيه من الواردات القلبية، ومن هنا وردت عن علماء الأخلاق هذه العبارة: (من لا ورد له لا وارد له).. فالإنسان الذي لا يتخذ محطة لذكر الله عزوجل -بالمعنى الدقيق للذكر- لا يأتيه المدد الغيبي.. ومن أفضل ساعات السياحة الأنفسية والتوغل في عالم الغيب، هو عقيب الفرائض.. فلو أن إنساناً يحيي الموتى -وهذا قمة الإعجاز والكرامة- ولكنه يعيش حالة الشرود والغفلة في صلاته، فإنه ليس بشيء.. إن الذي لا يقبل في الصلاة، فإن رب العالمين لا يقبل عليه، ومن لم يقبل عليه رب العالمين، لا وزن له في الوجود، فهبْ أنه يحيي الموت، إلا أن عدم إقباله في الصلاة علامة على بعده عن الحق..
والمحطة الثانية: في صلاة الليل:
إن الذي يريد الكمال لابد أن يكون بمستوى الهمة التي تهيئه للتكامل.. وليس المطلوب أن يصلي الإنسان صلاة الليل بالكيفية الواردة شرعاً، فمن المعلوم أن النبي (ص) كان يقطع صلاة ليله: يصلي وينام وهكذا.. كما لو أن إنساناً بيده قطعة حلوى، فهو لا يأكلها دفعة واحدة، بل تراه يقطعها قطعة قطعة حتى يطيل فترة استمتاعه.. إن أولياء الله وعلى رأسهم النبي المصطفى (ص) كانوا يقطعون الدخول على المولى عزوجل..
ولكن الذي يصلي صلاة الفجر في أول وقته ، ما الذي يضره أن يستيقظ قبيل الفجر بربع ساعة أو بعشر دقائق ويصلي ، ليتشبه بالذين يقيمون بالليل.. وإلا فإن قيام الليل معنى عميق، قيام الليل لقاء العاشق مع معشوقه، ومن هنا ذلك العالم كان ينادي في جوف الليل: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة!..
هناك لذائذ في جوف الليل تدرك ولا توصف لأهله، لكن نحن المبتدئين نتشبه بهم في ركيعات ثلاث: ركعتا الشفع، وركعة الوتر.. والذي لا يكلف نفسه هذا الأقل من صلاة الليل، فمعنى ذلك أنه لا يريد أن يتميز في حركته إلى الله تعالى، ويكتفي بالعمل بالرسالة العملية -بالفقه الظاهري- ولا حظ له بالفقه الباطني في شيء.
- إن الذين يقنعون بالققه الظاهري ولا يطمعون لما رواء الفقه، هؤلاء لا يصلون إلى جوهر العبادة.. أشبه شيء بمن يريد لقاء الملك، ولكنه يكتفي بالتواجد في ساحة القصر، ومراجعة ما يعرض في المكتبة من حياة الملك وسيرته وأوصافه.. فهو يبقى يحوم حول القصر دون التشرف بالمثول بين يديه.
على الإنسان المؤمن أن يطمع فيما هو أعظم من ذلك، ويسعى أن يصل إلى درجة يدخل ساحة العز الإلهي، ويحاول أن ينتقل من القشرة إلى اللب -من الملك إلى الملكوت- والذي عرف الدين من خلال اللب والملكوت، فهذا الإنسان لا يخشى عليه من الارتداد عن طريق الله؛ لأنه وصل إلى معدن العظمة: (إلهي!.. هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك؛ حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة).
- لنحاول أن نجعل أنفساً محلاً للألطاف والتجليات الإلهية.. إن رب العالمين ليست له صلة قرابة مع علماء الحوزات والفقهاء والمراجع، فمتى ما وجد القلب السليم فإن رب العالمين يتجلى في ذلك القلب كالمرآة.. ومن الملاحظ أنه كلما ازداد صفاء المرآة ونقائها من الغبار والكدر -هذا إذا لم يكن صداً- كلما كان انعكاس الأشياء فيها أكثر وضوحاً.. فلو وضعت مرآة أمام الشمس لانتقلت هذه الشمس العظيمة عبر هذه المرآة الصغيرة، وأصبحت تحمل خواصها إذ تكون قابلة للإحراق.. فإذا كان ذلك بالنسبة للشمس والمرآة، فكيف بالنفوس البشرية إذا واجهت شمس الوجود؟!.. نعم فإنها تصبح نفوس إلهية..
كنا في بلد ما وقيل لي بأن أحد الأشخاص جاء من بلد أوربي -إيطاليا- وهو حائر، ويعيش حالة الشرود والذهول، ويبحث عمن يحدثه ويحل له مشكلته، وقد كان حديث التعرف على مذهب أهل البيت (ع).. يقول: بأن رب العالمين فتح عليه باباً من أبواب الدعوة إليه بلا مناسبة وبلا إنذار سابق، ورأى نفسه مستذوقاً عالم الغيب -أنا احتملت أن يكون ذلك جراء تعرفه على مذهب أهل البيت (ع)، وتحمله لبعض الصعاب في هذا المجال- وبعد أن استذوق العبادة ورأى نفسه مقبلاً عليها بشكل رهيب، تلذذ بصلاة الليل إلى أصبحت صلاة ليله ست ساعات، لا يشبع من صلاة الليل، هو في النهار يكدح ويعمل ولكن في الليل هكذا.. وقال عبارة لعلي لم أسمعها إلى الآن من ولي ولا من عالم!.. -فرب العالمين -كما قلنا- ليست له علاقة نسبية بجهة ما، فهو عند المنكسرة قلوبهم والمندرسة قبورهم- وهو بأنه وصل إلى مرحلة عندما يقرأ القرآن الكريم، يحس بحس بحلاوة في فمه كحلاوة العسل، ليست حلاوة معنوية وإنما حلاوة حقيقية.. ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يجعل في فمه العسل يستهوي العسل، وإذا رأى بأن هذا العسل مقترن بكتاب الله يكثر من قراءة القرآن الكريم.. إن الذي يرى في جوف الليل لقاء مع المحبوب الأعظم، لا يمكنه أن ينام الليل، بل يكون مصداقاً لقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }.. كلمة تتجافى مأخوذة من الجفاء؛ أي يجافي الفراش -يكره الفراش- الذي يصده عن قيام الليل.. ومشكلة هذا الرجل أن ذلك كله سلب منه!..