الدرس الثالث : الامداد الغيبي فى حركة السالك إلى الله تعالى
- إننا نعتقد أن أغلب الناس يحملون في بواطنهم معادن نفيسة، ولكن -مع الأسف- هذه المعادن مجهولة، أشبه شيء -هذه الأيام- بالآبار النفطية.. فمن المعلوم أن النفط يحتاج إلى جهاز استخراج أولاً، ثم إلى جهاز تكرير ليصفى من الشوائب والعوالق، ثم يصبح بعد ذلك صالحاً ليكون وقوداً يصب في المحركات والسيارات.. والناس كذلك فى أن لأمر يحتاج إلى استكشاف واستخراج وتصفية؛ لكي تحول تلك المعادن المستبطنة إلى وقود يحركهم إلى الأمام..
والدليل على أن هذه الطاقات غير مستخرجة، أن الإنسان في شهر رمضان يرى في نفسه قوة لا مثيل لها طوال أيام السنة.. كنا في بعض البلاد وأقمنا إحياء ليلة القدر تقريبا من المغرب إلى طلوع الشمس.. هؤلاء الذين صبروا معي ما يزيد على اثني عشر ساعة في العبادة، هم من عامة الناس والذي لو ترك أحدهم وشأنه لنام في اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، ولكن عندما يقع في ظرف متميز تراه يندفع للأمام.. وكذلك في موسم الحج نرى الحجاج في عشرة أو عشرين يوما، يستنفذون طاقاتهم لأجل أداء المناسك.. كنا في ليلة من الليالي في جمع قوم مترفين، وفي بيت يذكرنا بالترف المادي، واقترحنا على الإخوان أن نصلي لربنا بشكل جماعي خمسمائة ركعة، وفعلاً صبروا معي بتعب غير متعارف وأنجزنا ذلك بحمد الله..
رحم الله صاحب الغدير أي العلامة الأمينى يقول: (البعض قد يستنكر على علي (ع) أنه صلى ألف ركعة، والحال بأنه بعض أهل زماننا من أراد أن يقدم للرضا (ص) هدية فقدم له ألف ركعة في ليلة واحدة).. وأنا عندي مصدر موثق أن صاحب القضية هو نفسه صاحب الغدير، لم يحب أن يرائي فأخفى الأمر.. فإذن، طاقاتنا الحقيقة أكثر بكثير من طاقاتنا المستخرجة، وبعد الاستخراج تحتاج إلى تصفية، وهذه الجلسات من أجل معرفة كيف نصفي الطاقات الباطنية لتحول إلى حركة في الحياة..
- يقال بأن الحركة الإلهية شبيهة بالحركات الغرامية.. فمن المعلوم في غرام البشر بعضهم للبعض -هذا الذي نراه بين الشباب والفتيات- أن العشق البشري كماء البحر، كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشاً.. الحب الإلهي يفوق ذلك بكثير، ومن مشى على الطريق وصل.. إذا كانت القاطرة خارج السكة فإنه لا أمل في الوصول، ولكن إذا جعلناها على السكة ولو بدفع خفيف فإن القاطرة تمشي؛ لأنها وقعت على الطريق..
أحد العلماء الأجلاء سمعته يقول هذا الكلام الجميل:
لو أن أحدهم تاه في البرية لسنوات لا يعلم أين وطنه، ولكنه وصل إلى مكان عال –مثلاً- ورأى البلدة من بعيد، فإنه يتنفس الصعداء، ويقول: قد وصلت، رغم أن بين مكانه والبلدة عقبات كثيرة، إلا أنه رأى المقصد، ورأى الطريق، وعندما يرى الهدف ويرى الطريق تهون عليه الصعاب.. ولهذا فإن رب العالمين عندما أراد أن يعاقب بني اسرائيل، فعاقبهم بالتيه في الأرض؛ عقوبة لهم على مخالفتهم لنبيهم.
- إن في علم الأخلاق مسلكين:
الأول: يبين لنا الفضائل والرذائل، وهذا الذي سلكه صاحب كتاب: (جامع السعادات) في كتابه القيم.
والثاني: يبين لنا ما هي آليات الوصول إلى هذه الفضائل والرذائل.
تارة يصف الإنسان الأطعمة الشهية في المطعم مما يسيل له اللعاب، ولكن أين المطعم؟.. وما الطريق إليه؟.. ومن أين يؤمن المبلغ المادي؟.. وكيف يدخل المطعم؟.. وأي الطعام يأكل؟.. وما هي المقبلات، وما هي المؤخرات؟.. فكل هذه آليات للوصول إلى المطلوب، وهذا لا يعني أن يستغني الإنسان بالثاني عن الأول، بل ينبغي في أول الأمر أن يتعلم الرذائل والفضائل، وهو بحث لا يحتاج إلى تعمق كثير؛ لأنه في باطن الإنسان وفي فطرته.. وإنما نحن نريد علماً يقودنا إلى الهدف، ويعلمنا من أين نبدأ، وكيف نبدأ، وفي أي مكان، وفي أي زمان، وما هي العوارض، وما هي الأمراض، وما هي العقبات.. وهذا الذي يعبر عنه بعلم الوصول إلى الله.
- لا شك في أن هذه الأبحاث مخالفة لمقتضى ميل الإنسان وطبعه الذى يميل إلى كل ما هو محسوس، وتحقيقها عملياً يحتاج إلى همة ومجاهدة ومخالفة للهوى.. ومن هنا نلاحظ أن البعض ارتضى بمجرد العمل بالفقه الظاهري: صلاةً، وصوماً، وحجاً، وخمساً.. دون أن يرى لما وراء ذلك أهمية أو ضرورة.. والحال بأن الله –عز وجل- في خطاب قرآني للجميع يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ اِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.. نحن مقصرون في أصل التقوى، فكيف بحق التقوى؟!.. وفي آية أخرى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. وهنا نلاحظ التهديد لمن لم يكن الله ورسوله أحب إليه من سواهما: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.. إلا أننا نلاحظ -مع الأسف- أن الإنسان عندما ينظر إلى قلبه، لا يرى لحب الله –تعالى- وجوداً في هذا القلب.. نعم، هناك اعتقاد بالله عزوجل، ولكن أين حب الأولاد من حب الله ورسوله؟!..
- نحن -كما قلنا- سائرون الى لقاء إجباري مع رب العالمين.. وحتى نعلم معنى اللقاء الإجباري والاختياري والفرق بينهما نضرب هذا المثال:
لو أن إنساناً له محاكمة في المحكمة، وهو في هذه المحكمة بين أن يعفى عنه، أو يحكم عليه بالإعدام، أو الحبس المؤبد.. فالذي هو طليق -خارج المحكمة- ويعلم تاريخ المحاكمة، فإن أول خطوة يتقدم بها، أن يصل إلى القاضي ويصادقه ويشاركه في تجارة أو في أمر ما، حتى عندما يتم اللقاء في المحكمة -مع فرض أن القاضي بيده كل شيء- يستفيد من قربه المميز منه، ويعفو عنه.. إن هذا في عالم القضاء في الدنيا، ونحن نقول: -شئنا أم أبينا- صائرون إلى ذلك اليوم الذي فيه توضع الموازين القسط: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.. وحينئذ يكون الحساب دقيقاً، ويقول الإنسان: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}..
فلماذا لا نحاول أن نصادق القاضي الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، ومن السموات مطويات بيمينه، والذي له الخلق والأمر؟.. فإذا صار يوم القيامة فإن هذه العلاقة وهذا القرب في الحياة الدنيا سيشفع لنا كثيراً.. فإذن، هذه هي فلسفة هذا الحديث في هذه الليالي والأيام: كيف نصل إليه قبل أن نصل إليه؟.. كيف نموت قبل أن نموت؟.. كيف نحاسٍب قبل أن نحاَسب؟..