الجنس : عدد المساهمات : 2695تاريخ الميلاد : 22/07/1989 تاريخ التسجيل : 29/01/2011العمر : 35الموقع : العراقحكمتي المفضلة : مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وأَقَلَّ الْإِِعْتِبَارَ!
موضوع: وحي القرآن الأربعاء مارس 28, 2012 3:26 pm
وحي القرآن
[size=16]الشيخ مرتضى المطهري
ما برحت حياة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم موضع عناية الدارسين من أبعاد مختلفة ، وبقدر ما عبىء للموضوع من أهبة واستعداد ، ومنهجية في أغلب الأحيان ، فما تزال هناك بقية للبحث ، فقد تنقصنا كثير من الوثائق عن حياته الروحية قبل البعثة ، وصلتها بحياته العامة والخاصة بعد البعثة . هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة والتأريخ والآثار ، تتعلق بحياة النبي صلى الله عليه واله وسلم هامشيا ، تتخذ مجال الثناء والأطراء حينا ، وتتسم بطابع الحب والتقديس حينا آخر ، وهي مظاهر لا تزيد من منزلة النبي صلى الله عليه واله وسلم الذاتية ، ولا تكشف عن مكنونات مثله العليا ، ذلك باستثناء الإجماع على عزلته في عبادته وتحنثه ، والاقتناع بصدقه وأمانته ، وهي شذرات غير غريبة في أصالة النبي صلى الله عليه واله وسلم الكريمة ، وتقويمه الخلقي الرصين . وتطالعنا ـ احيانا ـ أحداث في تأريخ النبي صلى الله عليه واله وسلم قبل البعثة ، لها مداليل من وثاقة ، ورجاحة من عقل ، كالمشاركة الفاعلة في حلف الفضول ، وتميزه بالدفاع عن ذوي الحقوق المهتضمة ، وكاللفتة البارعة في رفع الحجر الأسود ، ووضعه بموضعه من الكعبة اليوم ، بما أطفأ به نائرة ، وأخمد فتنة . وهناك انفراده عن شباب عصره بالحشمة والاتزان ، وهو في شرخ الصبا وعنفوان العمر ، والتأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة وشعابها ، وفي غار حراء بخاصة ، والحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين ، لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية ، ولا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا واجتماعيا في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد ، ويفقد أبويه تباعا ، ويحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن ، وبوفاته يوصي به لأبي طالب ، ويتزوج وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد ، وكان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة ، تكّد وتكدح في تجارة تتأرجح بين الربح والخسران ، وفجأة الوحي الحق ، والتجأ إلى خديجة ، تزمله آنا ، وتدثره آنا آخر . وينهض النبي صلى الله عليه واله وسلم في دعوته ، فتجد الدعوة مكذبين ومصدقين ، وتقف قريش بكبريائها وجبروتها في صدر الدعوة ، ويلقى الأذى والعنت من قومه وعشيرته الأقربين ، وفي حمأة الأحداث يموت كافله وزوجته في عام واحد ، فيكون عليه عام الأحزان ، فلا اليد التي قدمت المال للرسالة ، ولا الساعد الذي آوى وحامى ، ويوحى إليه بالهجرة ، فتمثل حدثا عالميا فيما بعد . هذه لمحات يذكرها كل من يترجم للنبي صلى الله عليه واله وسلم يطيل بها البعض ، ويوجز البعض الآخر ، وليست كل شيء في حياة النبي ، فقد تكون غيضا من فيض . ولست في صدد تأريخية هذه الأحداث ، ولا بسبيل برمجتها ، لألقي عليها ظلالا مكثفة من البحث ، ولكنها لمسات تمهيدية تستدعي الإشارة فحسب . ومهما يكن من أمر ، فقد تبقى طريقة النبي صلى الله عليه واله وسلم المنهجية في التوفيق بين واجباته الروحية ومهماته القيادية من جهة ، وبين حياته العامة ومساره الدنيوي من جهة ثانية ، لا تجد تأريخا يمثل بدقة ووضوح تأمين المنهج الرئيسي الذي اختطه لنفسه هذا القائد العظيم وهو في مكة المكرمة . في المدينة المنورة حيث العدد والعدة ، والنصرة والفداء ، نلمس إيحاء قرآنيا بنقطتين مهمتين : الأولى : مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء ، وتذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي ، والتصديق الكاذب ، يصافحون أهل الكتاب تارة ، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى ، حتى ضاق بهم ذرعا ، ونهاهم القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا وتكرارا ، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان ، ولم ينقطع كيدهم ، فمثلوا ثورة مضادة داخلية ، تفتك بالصفوف وتفرق الجموع ، لولا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف ، وهزائمهم المتلاحقة ، إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية ، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد ، وعاصفة بين الضلوع ، تخمد تارة وتهب أخرى . الثانية : مجابهته للفضوليين ، الذين كانوا يأخذون عليه راحته ، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته ، بين أفراد عائلته وزوجاته ، فينادونه باسمه المجرد ، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق ، بما عبر عنه القرآن بصراحة : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ) . واستأثر البعض من هؤلاء وغيرهم بوقت القائد ، فكانت الثرثرة والهذر ، وكان التساؤل والتنطع ، دون تقدير لملكية هذا الوقت ، وعائدية هذه الشخصية ، فحد القرآن من هذه الظاهرة ، واعتبرها ضربا من الفوضى ، وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب ، فكانت آية النجوى : ( يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم *) . وكان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم فكف الفضول ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي صلى الله عليه واله وسلم للمسؤولية القيادية . ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ، وبلغ الله منها أمره ، نسّخ حكمها ورُفع ، وخفف الله عن المسلمين بعد شدة مؤدبة ، وفريضة رادعة ، وتأنيب في آية النسخ : ( ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعلمون * ) . كان هذا وذاك يستدعي الوقوف فترة زمنية عند رعاية الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوفيق بين واجباته القيادية ، وحياته الاعتيادية ، فأمام المنافقين نجد الحذر واليقظة يتبعهما الإنذار النهائي باغرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ، وعند الحادثتين التاليتين نجد الوحي حاضرا في اللحظة الحاسمة ، فيسليه في الأولى بأن أكثر هؤلاء لايعقلون . ويعظمه في الثانية بجعل مقامه متميزا ، فلا يخاطب إلا بصدقة ، ولايسأل إلا بزكاة . وما زلنا في هذا الصدد فإننا نجد الوحي رفيقا أمينا لهذا القائد الموحى إليه ، من هذه الزاوية التوفيقية بين التفرغ لنفسه ، والتفرغ لمسؤولياته ، وهذا أهم جانب يجب أن يكشف في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والكشف عنه إنما يتم بدراسة حياة النبي الخاصة مرتبطة بهذه الظاهرة ، وهي ظاهرة الوحي الإلهي ، ومدى الاتصال والانفصال بينها وبين النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وحاجته الملحّة إلى هذا الشعاع الهادي ، منذ البدء وحتى النهاية . لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعا من الرسل ، ولم يختص بالوحي دونهم ، بل العكس هو الصحيح ، فقد شاركهم هذه الظاهرة ، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل ، قال تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وءاتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) . فقد هدفت الآية وما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء عليهم السلام كافة ، ممن اقتص خبرهم وممن لم يقتص ، وإيثار موسى بالمكالمة وحده . ويبقى التساؤل قائما : بماذا تفسر هذه الظاهرة ، وكيف تعلل نفسيا ؟ وكيف تنطبق كونيا ، وكيف عولجت قرآنيا ؟ وهل هي حقيقة تنطلق من ذات النبي صلى الله عليه واله وسلم ؟ أم هي ظاهرة منفصلة عنه تماما ؟ وما هو سبيل معرفتها جوهريا عند النبي صلى الله عليه واله وسلم ؟ وعند الناس ؟ وكيف آمن به بكل قوة ويقين وآمن بها من حوله ؟ وللإجابة عن هذه الافتراضات ، لا بد من رصد جديد لهذه الأبعاد كافة ، وقد يرى ذلك غريبا في تأريخ القرآن ، ولكن نظرة تمحيصية خاطفة ، تؤصل حقيقة هذا المناخ ، وتؤكد ضرورة هذا المنهج ، لأن الوحي يشكل بعدا زمنيا معنيا يقترن بنزول القرآن ، وذلك أول تأريخ القرآن ، ويستمر معه بوحي القرآن متكاملا ، وذلك تفصيلات تأريخ القرآن في عهد الرسالة ، وهو الجزء المهم والأساس في هذا التأريخ . وباستعراض هذه الافتراضات سوف نلمس النبي صلى الله عليه واله وسلم عبدا مأمورا محتسبا ، يُنفّذ ولا يسأل ، ويبلغ ولا يضيف ، مهمته التلقي والأداء ، مستقلا بذاته ، ومنفصلا عن ظاهرته ، ويبقى الجمع بين حياته العامة والخاصة من اختصاصه بتوجيه من الله تعالى ، وبعناية من وحيه ، فلا تعارض بينهما ، فيرتفع بذلك ما أثرناه مسبقا ، ويتلاشى الإشكال بهذا الملحظ ، مع أننا نلمس بشكل جدي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قد وهب حياته للوحي ، مبلغا أمينا ، ورسولا كريما ، إلا أن شخصيته حقيقة ، والوحي حقيقة أخرى ، وهذا ما ندأب إلى إثباته علميا .
*** أن ما يذهب إليه بعض الدارسين من أن ظاهرة الوحي ، قد يراد بها المكاشفة ، وقد يعبر عنها بالوحي النفسي تارة ، أو الإلهام المطلق تارة أخرى ، دون تحديد مميز ، لا يتوافق مبدئيا مع دراسة النهج الموضوعي لظاهرة الوحي . إن كلمة الإلهام ليس لها أي مدلول نفسي محدد ، مع أنها مستخدمة عموما لكي ترد معنى الوحي إلى ميدان علم النفس . والوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير ، والوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير ، وأيضا غير قابل للتفكير .
والمكاشفة لا تنتج عند صاحبها يقينا كاملا ، ويقين النبي صلى الله عليه واله وسلم بالوحي قد كان كاملا ، مع وثوقه بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية ، وطارئة ، وخارجة عن ذاته . والوحي الإلهي هو الفصل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله . وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، وليس الإلهام والكشف كذلك ، وهذا ما يميز الوحي عن المكاشفة ، والوحي النفسي ، والإلهام ، إذ أن مردّ الإلهام يعود عادة إلى الميدان التجريبي لعلم النفس ، ونزعة الوحي النفسي في انقداحها تعتمد على التفكر في الاستنباط ، والمكاشفة تتأرجح بين الشك واليقين . أما الوحي فحالة فريدة مخالفة لا تخضع إلى التجربة أو التفكير ، ومتيقنة لا مجال معها للشك . مضافا إلى أن حالات الكشف والإلهام والإيحاء النفسي حالات لا شعورية ولا إرادية ، والوحي ظاهرة شعورية تتسم بالوعي والإدراك التأمين . والوحي بالمعنى المشار إليه يختص بالأنبياء ، وليس الإلهام أو الكشف كذلك ، فهما عامان وشائعان بين الناس . ولقد فرّق المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه ( 1836 ـ 1930م ) بين الوحي والإلهام تفريقا فيه مزيج بين الواقع والصوفية ، فاعتبر الوحي خاصا بالأنبياء ، والإلهام خاصا بالأولياء إذ لا يوحى إليهم . ويتجلى الفرق بين الإلهام والوحي بتعبير آخر ، وبتصور متغاير ، أن مصدر الإلهام باطني ، وأن مصدر الوحي خارجي بل الإلهام من الكشف المعنوي ، والوحي من الواقع الشهودي ، لأن الوحي إنما يتحصل بشهود الملك وسماع كلامه ، أما الإلهام فيشرق على الإنسان من غير واسطة ملك ، فالإلهام أعم من الوحي ، لأن الوحي مشروط بالتبليغ ، ولا يشترط ذلك في الإلهام . والإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق ، ويصلح للبرهان والإلزام ، وإنما هو كشف باطني ، أو حدس ، يحصل به العلم للإنسان في حق نفسه لا على وجه اليقين والقطع ، كما هي الحالة في الوحي ، بل على أساس الاحتمال الإقناعي . ولهذا فلا اعتبار بما حاوله الأستاذ محمد عبده : بجعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس ، وحسبان ذلك طريقا لإمكان الوحي . إن طريق الوحي هو التلقي ، وطريق هذا التلقي هو الملك وفي ضوئه نجد عبد القاهر الجرجاني ( في 471 هـ ) حديا بتمثل الوحي متفردا بما ألقاه جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه واله وسلم ، وأن القول بأنه : « قد كان على سبيل الإلهام ، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان ، ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب ، فذلك مما يستعاذ بالله منه ، فإنه تطرق للإلحاد » . ولقد تطرق بعض الباحثين الكهنوتيين فادعى بأن الوحي : « هو حلول روح الله في روح الكتّاب الملهمين لاطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية ، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم ، فلكل منهم نمطه في التأليف ، وأسلوبه في التعبير » . وهذا التعبير عن الوحي بهذا الفهم ، يختلف جذريا عن المفهوم القرآني للوحي ، ويضفي مناخا باطنيا في الحلول والاتحاد ، يدفعه الإسلام ، وهو سبيل مختصر إلى تقمص الصفاء الروحي وادعائه من قبل من لم يحصل عليه ، وفيه استهواء للدجل الاجتماعي عند الكهنة والكذبة ، وبعد هذا : فهو مغاير لمفهوم الوحي وطريقته اللذين خاطب الله بهما رسله ، وعلمهم من خلالهما ، مع استقلال في شخصية الوحي ، بعيدة عن مراتب الفراسة والتجانس الروحي ، واستقلال في المتلقي بعيد عن الاستنتاج الذاتي ، أو التعبير المطلق بكل صوره . إن عملية الوحي الإلهي إنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين : « ذات متكلمة آمرة معطية ، وذات مخاطبة مأمورة متلقية » . ولم تتشاكل في مظهر من مظاهر الوحي وظاهرته ، الذات المتكلمة ، والذات المخاطبة في قالب واحد ، ولم يتحدا في صورة واحدة على الإطلاق ، فهما متغايران . إن ظاهرة الوحي الإلهي ظاهرة مرئية ومسموعة ، ولكنها خاصة بالنبي صلى الله عليه واله وسلم وحده ، فما اتفق ولو مرة واحدة ، أن سمع أصحابه صوت الوحي ، ولا حدث أن رأوا هذا الكائن الموحي ، ومع هذا فقد أدركوا صحة ما نزل عليه ، وصدق ما أوحي إليه ، بدلائل الإعجاز ، وقرائن الأهوال ، واعتبارات الاختصاص ، فالنفس الإنسانية ، وإن كانت واحدة في الأصل والجوهر ، ولكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلا من قبل الله تعالى ، فالنبي صلى الله عليه واله وسلم يرى ويسمع ويعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد ، ومن حوله لا يرون ولا يسمعون ولكنهم يصدقون ويؤمنون . وربما قيل أن ما يتلقاه النبي صلى الله عليه واله وسلم من الروح الأمين وهو رسول الوحي : « هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية ، فكان صلى الله عليه واله وسلم يرى ويسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع ... فكان صلى الله عليه واله وسلم يرى الشخص ، ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين كما نستخدمهما ، ولو كانت رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره ، فكان سائر الناس يرون ما يراه ، ويسمعون ما يسمع ، والنقل القطعي يكذب ذلك ، فكثيرا ما كانت تأخذه برحاء الوحي ، وهو بين الناس ، فيوحى إليه ، ومن حوله لا يشعرون بشيء ، ولا يشاهدون شخصا يكلمه » . وقد يفسر هذا بأنه ظاهرة ذاتية ، ولكن عمى الألوان ـ مثلا ـ يقدم لنا حالة نموذجية ، لا يمكن في ضوئها أن ترى بعض الألوان بالنسبة لكل العيون . « هناك مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر ، وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا ، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون ، فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة ، كما يحدث في حالة الخلية الضوئية الكهربية » . وهذا مطرد بالنسبة للبصر المادي المتفاوت ، أما على التفسير الأول ، فينتفي الأشكال جملة وتفصيلا ، فهو من باب الأولى . ولقد توصل النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى اليقين القطعي بصدق الرؤية والسمع عند حدوث ظاهرة الوحي طيلة ثلاثة وعشرين عاما ، وكان لذلك إمارات خارجية تبدو على وجهه وعينه وجبينه ، من شجوب أو احتقان أو تصبب عرق ، وقد يرافق ذلك دوي بجسمه أو أصداء أو أصوات كما تقول الروايات . ولكن هذه المظاهر لم تمتلك عليه وعيه الكامل ، وإحساسه اليقظ ، لأنها إمارات خارجية لا تغير من حقيقة شعوره على الإطلاق ، فقسمات الوجه ، وتعرق الجبين ، وشحوب المحيا لا تدل في حالة اعتيادية على تغير في الوعي ، أو انعدام للذاكرة ، أو فقدان للشعور ، وما هي إلا طوارىء عارضة لا تمس الجوهر بشيء .
ولقد تعجل بعض النقاد من المستشرقين ، حين ألموا بهذه الدلائل النفسية ، والإمارات الشكلية الخارجية التي لا تنتاب الوعي إطلاقا ، ولا تؤثر على الإدراك في حال ، فاعتبروها ـ مخطئين ـ أعراضا للتشنج تارة ، وللإغماظ تارة أخرى . « وهذا الرأي يشمل خطأ مزدوجا حين يتخذ من هذه الأغراض الخارجية مقياسا يحكم به على الظاهرة القرآنية بمجموعها ، ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب ، الذي لا يمكن أن يفسر أي تعليل مرضي ... فإذا نظرنا الى حالة النبي صلى الله عليه واله وسلم وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن ؛ بينما يتمتع الرجل بحالة عادية ، وبحرية عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية ، بحيث يستخدم ذاكرته استخداما كاملا خلال الأزمة نفسها ، على حين يمحى وعي المتشنج وذاكرته خلال الأزمة ، فالحالة ـ إذن ـ ليست حالة تشنج . هذا التلازم الملحوظ بين ظاهرة نفسية في أساسها ، وحالة معينة ، هو الطابع الخارجي المميّز للوحي » . وهكذا كان لظاهرة الوحي عند بعض المستشرقين تفسيرات خاطئة أملاها حقد ودجل وافتراء ، فقد كان الوحي على حد زعمهم أثرا لنوبات الصرع التي تعتري الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم فكان يغيب عن صوابه ، ويسيل منه العرق ، وتعتريه التشنجات ، وتخرج من فيه الرغوة ، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه ، وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه وحي من ربه . ومع ما في هذا الزعم من الكذب المضحك ، والغض المتعمد من منزلة النبي صلى الله عليه واله وسلم الرسالية ، فالطريف أن ينبري له المستشرقون أنفسهم ، لا سيما هنري لامنس ، وفون هامر ، وأمثالهما ، للرد عليه ، إلا أن في طليعة هؤلاء جميعا السير وليم موير ( 1819 م | 1905 م ) . لقد فند هذا الباحث المحايد في كتابه ( حياة محمد ) مزاعم الجهلة الحاقدين ، وعقب على ظاهرة الوحي وأعراضها الخارجية بقوله : « وتصوير ما كان يبدو عل محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطىء من الناحية العلمية أفحش الخطأ . فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها ، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما ، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها ، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل . هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي صلى الله عليه واله وسلم العربي أثناء الوحي ، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به ، يذكر بدقة ـ غاية الدقة ـ ما يتلقاه ، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه ، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه ، بل كثيرا ما يحدث والنبي صلى الله عليه واله وسلم في تمام يقظته العادية » . وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي صلى الله عليه واله وسلم المصطفى صلى الله عليه واله وسلم ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية ، قبل الوحي ، وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجئة . فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلى الله عليه واله وسلم النفسي ، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ، ويمثل فيها النبي صلى الله عليه واله وسلم دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يغير ولا يقترح ، ولا يفتر ولا يتكاسل . ولقد كان ذلك بحق : « استقبالا من النبي صلى الله عليه واله وسلم لحقيقة ذاتية مستقلة ، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي ، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي » . وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلى الله عليه واله وسلم الآنية ، أو تطلعاته النفسية الملحة ، فقد ينقطع عنه الوحي ، وقد يتقاطر عليه ، ولكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير الله عز وجل ، وما تحويل القبلة إلى الكعبة ، وإبطاء الوحي في حادثة الإفك ، وفترة الوحي حينا ، والتلبث في قصة أهل الكهف ، إلا شواهد تطبيقية على ما نقول ، وأدلة مثبتة : أن الوحي خاج عن إرادته ، ومستقل عن ذاته . ولا شك أن النبي صلى الله عليه واله وسلم آمن منذ اللحظة الأولى ـ بقناعة شخصية متوازنة ـ بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام وأضغاثها ، ولا من سنخ الرياضيات ومسالكها ، ولا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء والفطنة ، ولا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس والفراسة ، وإنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وما الروايات والإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل . « والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي صلى الله عليه واله وسلم والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام » . ويوحي الله عز وجل لملك الوحي ، ما يوحيه الملك إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم عن الله ، ويتسلم النبي صلى الله عليه واله وسلم الوحي ، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسؤولية ، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء ، وخاص بالنسبة لوحي القرآن ايضا ، فالملك يؤدي عن الله لمحمد ، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك ، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس ، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب ، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * ) . والروح الأمين هو جبرائيل عليه السلام بإجماع الأمة والروايات ؛ قال طبرسي ( ت : 548 هـ ) : « يعني جبرائيل عليه السلام ، وهو أمين الله لا يغيره ، ولا يبدله ... لأن الله تعالى يُسمِعه جبرائيل عليه السلام فيحفظه ، وينزل به على الرسول ويقرأه عليه ، فيعيه ويحفظه بقلبه ، فكأنه نزل به على قلبه » . وهذا صريح بكيفية تلقي النبي صلى الله عليه واله وسلم للقرآن من جبرائيل عليه السلام ، على قلبه تثبيتا وحفظا ورعاية ، والقلب أشرف الأعضاء للتدبر والتفكر إن أريد به هذا الجهاز العضلي ، وإلا فهو الإدراكات النفسية الخاصة لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم المستعدة للتلقي والصيانة والاستيعاب دون ريب . وكان ما نزل به جبرائيل عليه السلام بإيحاء من الله تعالى هو النص الصريح من الوحي القرآني دون زيادة أو نقصان ، بألفاظه المدونة في المصحف من ألفه إلى يائه . ولما كان الأمر كذلك ، فقد تحدث هذا النص المحفوظ بين الدفتين عن ظاهرة الوحي بوحي القرآن وسواه ، وطرقها ، وكيفيتها ، وأقسامها . ومن الضروري حقا استعراض مختلف أنشطة الموضوع من القرآن نفسه ، مع الاستعانة باللغة حينا ، وبالتبادر العربي العام حينا آخر ، لأن القرآن عربي ، والتبادر علامة الحقيقة . صرّحت الآية التالية : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآئ حجاب أو يرسل رسولا فيوحِيَ بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم ) . بطرق الوحي الإلهي ، وحددت كيفية هذا الوحي ، ومراتب إيصاله على النحو التالي : 1 ـ الوحي ، وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض ، وما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به ( وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء .